مـع هيـكل ... عمر عثمان

أنا من جيل لُدغ أبناؤه من جحر هيكل مرات. نحن الذين طالما انتشينا بكلماته على لسان خدينه الزعيم الأسمر.

وطالما حلقنا مع اهتزازات حنجرة أحمد سعيد ينادي علينا: اسمعوا يا عرب، لنفس الهدف الذي يفعله هيكل اليوم. النّيل من الآخرين. وتشويه صورهم.  يقول بعض علماء النفس إن ولع الإنسان بذكر عيوب الآخرين هي طريقة غير مباشرة ليقول: أنا.
أستمع إلى الحصيلة التي يسعى إليها هيكل من منبره الذي وصل إليه بعدما رُدّ إلى أرذل العمر، لأراه يدندن دائماً،  حول إدانة الأسر العربية الحاكمة التي كان يجملها في تلك الأيام عنوان (الرجعية) العربية. وتحت يديه بالطبع كل أرشيف (CIA)، ينتقي منه ما يشاء.
وهيكل في سعيه هذا لا يوقر كبيراً، ولا يعف عن لحم ميت أفضى إلى ما قدم، وهو ينبش في الوثائق التي يزعم أنها بين يديه، والتي تؤكد أن فلاناً أو فلاناً من القادة والزعماء من خارج مصر، والوجهاء من داخلها، جاءه يوماً يخبط على بابه. ليوحي لنا بأن بيته قد غدا بيت العز..
بيت العز يا بيتنا على بابك عنبتنا..
قناة الجزيرة التي قامت منذ أيام مشكورة بفضح الجريمة المنكرة لقتل المدنيين أو الموقوفين في نيجيريا في صور تهز الضمير البشري على اعتبار البشري مرحلة متخلقة عن الإنساني، وجدت الفرصة في الوقت نفسه، لتنبش كما ينبش هيكل، في تاريخ الأردن عن أربع حوادث وقعت سنة 1999. قام بها بعض الأساتذة بضرب طلاب في أحد دور الأيتام. لا غزة ولا فلسطين ولا ملف إيران النووي ولا أحداث نيجيريا، شغلت الجزيرة عن الانتصار للطلبة الأربعة المضروبين، وأن تتابع قصتهم، حيث يشرح واحد منهم أنه أصبح يتردد على طبيب نفسي ليخرج من الوهن الذي أحدثته ضربة الأستاذ. معذورون القائمون على قناة الجزيرة، فهم مضطرون إلى ملء وقت المشاهد بالخبر المفيد، وهم لم يجدوا قضية تستحق أن يتوقفوا عندها أهم من أربع حوادث في ضرب أربعة طلاب منذ أحد عشر عاماً، ربما تكون الجريمة قد سقطت بالتقادم.
 
أرجو ألا يتهمني أحد أنني ضد الجزيرة، فأنا على الحقيقة منذ بدأت الجزيرة بالبث نسيت موقع BBC على شاشة الفضاء أو على مؤشر الإذاعة. نعم كانت تلك المحطة هي مصدرنا الأول في جيل مضى للأخبار. ولكننا كنا نتعامل معها بحذر ووعي، وتفسير وانتقائية. يؤلمنا أن قناة الجزيرة اليوم تحتل في النفوس الموقع نفسه.
كثرة الثناء والمدح دفعت العاملين إلى الغرور. تقول الرواية الشرعية: احثوا في وجه المداحين التراب.. نحن مضطرون لمراجعة الجزيرة أي لانتقادها أعني لتقويمها: في كثير مما تقول، وفي الأكثر مما لا تقول..
ماذا أوصلني إلى هنا، أنا أتحدث، أو أريد أن أتحدث مع هيكل..
أعلم أنني لست من قامة هيكل (وبصراحة) أنا من الجيل الذي أدمن يوماً على انتظار مقال هيكل بصراحة..
سأقول لهيكل دعك من الحديث المنمق أو الملفق عن الملوك والزعماء العرب حدثني فقط كيف كانت نفسية صاحبك يوم التقط القلم ليوقع قرار إعدام سيد قطب مفسر القرآن؟ خبرني هل ارتجفت له أصبع؟! هل اهتز له جفن؟! خبرني كيف قضى تلك الليلة، وهو يعلم أنهم في الصباح سيعدمون بأمره هو أو بأمر سادته الرجل البريء الوديع.
أرجو أن تخرج لي وثيقة واحدة من وثائق الصفقة، صفقة إعدام هذا الرجل، أنا أذكر ولا أملك وثائق أن الخبر في القبض الثاني عليه مع أصحابه أول ما تطاير تطاير من (موسكو). فأي صفقة كانت بين (موسكو) و(واشنطن) وعملية الإعدام تلك..
حدثنا قبل أن يبلغ كتابك أجله عن صفقة إعدام الشيخ الفقيه (عبد القادر عودة) صاحب (التشريع الجنائي في الإسلام) أي خمر كنتم تشربون، دعني من هذا ارسم لنا الصورة الحقيقية لمجرم مصر (صلاح نصر) أو (شمس بدران) أو (عشماوي). اخرج لنا وثائق مذبحة ليمان طرة. رد لنا على زينب الغزالي، وما أوردته عن وجه صاحبك الكريه في أيام من حياتي. أين كنت أنت، وأين كان هو..
نحن نعرف كيف هربتم في السابعة والستين وكيف صنعتموها. وإنما نريد منك وأنت على حافة القبر أن تساعدنا على تصور اللحظات الإنسانية..
لا بد أن لديك وثائق توثق لحظات التعذيب والقتل والتشريد وتنفيذ أحكام الإعدام، ومتابعة المحسنين الذين يمدون رغيف خبز لأسر الضحايا والمعتقلين..
سيد هيكل.. كفاك هذراً. حدثنا فقط عن إنسانيتنا التي استباحها (ربك) على لغة سيدنا يوسف في سورته ولو لم يكن له إلا سلبية أنه جرأ ذئاب البشر على لحوم بني قومه لكفاه وكفاك خزياً..
أيها الكاتب القدير..
قال الخليفة لجليسه العالم:
ـ ناولني الدواة..
ـ قال: لا..
ـ قال: ولم..
قال أخاف أن تكتب بها ظلماً أو تأمر بظلم..
وقال آخر: يا سيدي أنا أخيط ثياب الظالمين فهل أنا من أعوانهم؟! أجابه: يا بني أنت منهم. أما الذين يبعيك الإبرة والخيط فهو من أعوانهم.
سيد هيكل.. كفاك هذراً.
وعد بنا إلى الحديث الذي ينتظره التاريخ قبل أن يشملك بما سيشمل به من أعوانك الكثير..