في السابع من أيلول سبتمبر/2011 فقدت الثورة السورية أحد أيقوناتها الشهيد "بلال الكن" الذي أرعب شبيحة النظام حياً وميتاً، وبكته المدينة كما لم تبك أحداً قبله، وكان أربعاؤها المؤرخ بإعلان استشهاده حزيناً، ولكنه كان لعنةً على هذا النظام الذي تفاجأ بأن بلالاً لم يكن الأول ولا الأخير-كما يقول الناشط "يمان الحمصي" لـ"زمان الوصل"- مشيراً إلى أن "بلال" (حمص 1980) كان شاباً عنيداً وصلباً نشأ في حي "جورة الشياح"، لم يحصّل أكثر من التعليم الابتدائي ولذلك التفت إلى الحياة المهنية.
وأردف محدثنا أن "الكن" التحق بالخدمة الإلزامية بين عامي 1999ـ 2000 ووجهت له تهمة حرق مستودع سلاح والهرب، حيث أدين وحُكم بالسجن الذي غادره عام 2010.
وتابع المصدر أن "بلال" انخرط كسائر شباب حمص في الثورة، وكان الموقف الاول له -كما يقول- في 25/3/2011، حين اقتحم الأمن والشبيحة حي "جورة الشياح" واعتدوا على الأهالي في منازلهم، واعتقلوا أمه، وتصدى "بلال" حينها لأحد الشبيحة وضربه متسبباً بجرحه وهو ما جعله المطلوب الأول في المدينة كلها فيما بعد.
اقتحمت قوات النظام حي "جورة الشياح" واعتقلت والدة "بلال"، وأجبرتها على توقيع ورقة مفادها أن يقوم بمنع خروج المظاهرات "لجان شعبية". وكشف المصدر، الذي كان قريباً من "الكن" أنه قال له بعد أسبوعين إن الناس بدأوا بالكلام عنك وظن -كما يقول- بأنه سيغضب، ولكنه تحول حقيقة إلى طفل وأدمعت عيناه، ومع حلول صلاة الجمعة انبرى لاثنين من الغرباء في طرف الحي، ولما عرف أنهما من الأمن قال لهم بلهجته الحمصية: (يلي بقرب منكم عالمظاهرة بدو يطلع من هون محمّل) فخافا وغادرا.
عاد "بلال" ليكون حارس المظاهرات والمتظاهرين أثناء صلاتهم حتى يوم الاعتصام العظيم، وكانت ليلة الاعتصام مفصلية إذ شكلت فارقاً في حياته التي لن تعود كما كانت بشكل من الأشكال.
الدفاع عن الأبرياء
وتابع "الحمصي" أن "بلال" قرر الدفاع عن الأبرياء بكل ما يستطيع، حتى لو حمل سلاحاً فردياً، فهذا النظام لا يتوقف عن غدره ولا أحد يردعه.
ومع حمله السلاح آثر الثائر الشاب أن يخرج من حيه الذي أجمع الأهالي في عدة أحياء الحفاظ عليه بعيداً عن اعتداءات النظام لكونه ممراً لباقي الأحياء وطريق المصابين إلى المشافي وأمور أخرى مهمة، وتنقل "بلال" بعدها بين أحياء "الخالدية" و"حمص القديمة"، ولكن جميع الأحياء الثائرة كان لها نصيب من تواجده.
بعد أن زادت قوات النظام من تغوّلها وإجرامها بحق أهالي المدينة تمكن "بلال الكن" من جمع عدد من الأبطال حوله، وكانت جماعته –حسب الحمصي- من أوائل الجماعات المقاتلة في المدينة، بالإضافة لجماعة من الأبطال في حي "المريجة" ومثلهم في الأحياء المنتفضة، وأطلق "بلال" على جماعته لاحقاً اسم "خالد بن الوليد".
وروى المصدر أن مجموعة "بلال" بدأت عملياتها تحت جنح الليل، حيث كانوا يهاجمون مواقع وحواجز الشبيحة التي تقتل الأهالي وعلى رأسها قيادة الشرطة والحواجز المنتشرة حول الأحياء، وتوسعت الأعمال لاحقاً وأصبحت مواجهات في وضح النهار رغم التباين في العدد والعتاد والتحصينات.
وبات اسم "بلال" كابوساً للشبيحة وأفرع الأمن التي كان تذيق أهالي حمص الويلات وكان "مرعب الشبيحة" يقول لرفاقه في المجموعة "مهما فعلتم قولوا بلال كي لا يتعرض أهلكم للملاحقة الأمنية".
بدأت خسائر النظام تتزايد في حمص وصار أمر خروج المدينة عن سيطرة جيشه ومخابراته قاب قوسين أو أدنى.
شخصية جمعت الناس حولها
وأشار صديق الشاب الشهيد إلى أن شخصيته أفزعت النظام ليس لقوته وبسالته فحسب، ولكن لأن الناس بدأت بالالتفاف حوله. بالإضافة لتحركات "بلال" باتجاه أحياء حمص التي تحيط بالمدينة كـ"ديربعلبة" و"باباعمرو" التي لم تكن قد خرجت من القمقم حينها، ويعد هذان الحيان مهمين لحمص والثائرين. وتجاوز "بلال" أحياء حمص لينتقل إلى الريف، وبدأ بالتنسيق مع نشطاء ومنشقين من أجل تشكيل لواء واحد يضم الجميع وتنسيق العمل، وخلال هذه المهمة تعرض لملاحقات عدة، وكاد يفقد روحه هو وبقية رفاقه.
ومضى محدثنا سارداً جوانب من حياة الثائر الشاب والتحولات التي شهدتها المدينة آنذاك فمع دخول شهر أيلول سبتمبر/2011، كان عمر الحراك في حمص نصف عام حين حشد النظام قواته للقضاء على ما أسماها "بؤر الإرهاب"، وتوجهت الفرقة الرابعة مع فرقتي مشاة ودبابات للقضاء على الثورة في حمص، وجرت حرب الشوارع ومعارك غير متكافئة بين الشبيحة والثوار لمدة يومين تمكن "بلال" ورفاقه خلالها من تكبيد جيش النظام عشرات القتلى، وهو ما نقله بعض المنشقين يومها، زاد النظام من كثافة القصف والنيران وبدأ يحرق البيوت بنيرانه وهو ما أنذر بكارثة بشرية.
وبدأت النداءات من الأهالي والمقربين من "بلال" ورفاقه بنصحهم بالخروج قبل أن يتم حصارهم وقتلهم.
وكشف "الحمصي" أن "بلال" رفض مطالبات شقيقه (الذي يكبره مباشرة) بالانسحاب، وكان قرار القتال محسوماً، فأما الشهادة وأما دحر النظام الطائفي ورفع الظلم عن الناس.
مع تعثّر تقدّم قوات النظام بدأت بتكتيك جديد وهو التسلل عبر أسطح الأبنية عن طريق بعض العواينية مع نشر العديد من القناصين في الأبراج المحيطة بمنطقة "الورشة" و"بستان الديوان" وباقي مناطق تواجد مقاومي المدينة، وبدأت الإصابات تتوالى في صفوفهم.
وكان من بينهم البطل لؤي الملقب بميماتي، حيث اخترقت طلقة ساقه ما أدى لتفتتها.
وأثناء إخلاء المصابين والانتقال لمكان يدرأ عن الأبطال النيران استطاع أحد القناصين النيل من "بلال"، واخترقت رصاصة أسفل رأسه من الخلف لتستقر تحت عينه ولتعلن نهاية رجل شجاع.
طلقة خطفت آخر نفس
وأشار "الحمصي" إلى أن أحداً من الموجودين لم يكن يصدق أن بلالاً قد استشهد، وأن طلقة قد تخطف آخر أنفاسه، وهو الذي كان يسير على الأرض كالمدرّعة ويقف كالجبل رغم كليتيه المنهكتين. كان تاريخ ٧ أيلول/2011 حزيناً بكت فيه حمص وثوارها بشيبهم وشبابهم وحرائرهم، ولم يُعلن عن استشهاده إلا في صباح اليوم التالي بعد تأمين دفن جثمانه في مسجد "النخلة العمري".
دفن مرتين
وكشف "الحمصي" أن النظام لم يترك حينها مكاناً أو مشفى إلا وبحث فيها عن "بلال" واعتقل مصابين من مشفى البر في نفس اليوم، ومع معرفته مكان مواراة جثمان "بلال" ورفيقه "أحمد النكدلي" و"عمر شتور" قامت قوات النظام باستخراج الجثامين، وإمعاناً في الحقد والتشفي دارت عناصر مخابرات النظام بجثمان "بلال" في الأحياء الموالية ليطمئن الشبيحة بأن الرعب زال والكابوس انتهى ظناً منهم أنهم أخمدوا حمص، وأعيد جثمانه إلى المشفى العسكري ومنع النظام أحداً من أهله وأقاربه من تشييعه باستثناء والدته وقريبين له وحارس مقبرة النصر "أبو شام".
وانطوت باستشهاد ابن "جورة الشياح" سيرة شاب بطل كان رمزاً بتضحياته وشهامته وثوريته ووضوح هدفه، ولم يكن متكلّفاً ولا متصنّعاً بل بطلاً بحق أحبه أهله ورفاقه وجيرانه وهو سرّ قوته وأهم مافي رمزيته.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية