لا يعيد التاريخ نفسه غير أن الأحداث الكبرى تتشابه في الظروف والمعطيات، ما يوحي للمتتبع للأحداث أن التاريخ يكرر نفسه، مع تغير الوجوه والتوقيت، والاحتفاظ بالتفاصيل الهامة.
في العام 1982 فرضت إسرائيل حصارا قاسيا على مدينة بيروت بهدف إجبار المقاومة الفلسطينية على الخروج نهائيا من الاراضي اللبنانية، ويذكر شهود عيان أن روح التعاون كانت في قمتها بين المحاصرين من اللبنانيين والفلسطينيين وأن اللبنانيين كانوا بيئة حاضنة وداعمة للمقاتلين، غير أن الوضع بدأ يقلب بالتدريج حتى انتهى الأمر بموافقة المقاتلين على مغادرة لبنان إلى شتات الأرض.
يقول شهود العيان إن إسرائيل اعتمدت خلال فترة الحصار على القصف المتواصل والعشوائي على مدا الساعة موقعة الكثير من القتلى والجرحى بين صفوف المدنيين ومخلفة الكثير من الدمار، ناهيك عن الجوع والحرمان نتيجة للحصار الخانق والذي كان محكما من الجهات الأربع، وهنا بدأ المزاج المدني بالتبدل، وكان لإسرائيل ما أرادت من خلال حصارها وقصفها الوحشيين من البر والبحر والجو، وبدأ التململ بين فئات اللبنانيين الذين كانوا قبل فترة قصيرة يقدمون كل الدعم المعنوي للمقاتلين، جاء التبدل نتيجة لأعداد الضحايا وللدمار العشوائي، فبات المزاج العام يتجه نحو السبب في هذه المحنة التي تعيشها بيروت، وقد تناسى الناس أن سبب هذه المحنة هو القصف، واتجه التفكير إلى أن صمود المقاتلين الفلسطينيين هو السبب، ما تسبب في شعور المقاتلين بأنهم فعلا يتسببون في قتل المدنيين خاص وأنهم أدركوا تخلي المجتمع العربي والدولي عنهم وعدم استعداد أي جهة لتقديم العون ولو سياسيا لتثبيت الصمود ودعمه.
منذ أن ضرب جش نظام الأسد حصاره على الغوطة وهو يتبع ذات الأسلوب (ولقد اتبعه في كل المناطق التي حاصرها) فالقصف الجوي والبري لا يتوقف، وهو عشوائي لا يميز بين مدنيين ومقاتلين والهدف معروف طبعا، هو الإيحاء بأن المقاتلين المتحصنين في الغوطة هم السبب في هذا القصف، هم السبب في المحنة التي يعيشها أكثر من 400 ألف مدني محاصرين في الغوطة، ولأن المدنيين رفضوا الخروج من بيوتهم وقراهم، زاد النظام من وتيرة وحشيته آملا في تحقيق انقلاب في المزاج العام عند المدنيين، ضد تواجد المقالتين في ظهرانيهم، في اتباع واضح للخطط الإسرائيلية خلال فتر صار بيروت، حيث تتطابق الأساليب الأهداف.
ويتعدى التطابق هذا المدى ليصل إلى تشابه في الظروف الإقليمية والدولية، فأهل الغوطة يشعرون بتخلي المجتمع الدوي عنهم وسكوته عن جرائم النظام حتى حين يخرق قرار لمجلس الأمن يطالبه بوقف الأعمال القتالية في الغوطة وعموم الأراضي السورية، هذا الصمت الإقليمي والدولي من شأنه أن يسهم في تحقيق أهداف النظام من خلال حصاره، وفرض حالة من اليأس والإحباط لدى قطاعات واسعة من المدنيين والمقاتلين في الوقت نفسه.
حين أصدرت القيادة الفلسطينية المحاصرة في ببيروت بيانا تعلن فيه قبول الخروج إلى دمشق وتونس واليونان، تحت ضغط القصف والصمت العربي والدولي، ردت إسرائيل بتعهدها بعدم التعرض للسفن التي تنقل المقاتلين من بيروت.
إنه ذات التعهد الذي يطلقه النظام للمقاتلين الذين يوافقون على عقد "مصالحة" تتضمن خروجهم وتسليم أسلحتهم الثقيلة، إن هذا التطابق في التخطيط بين الجيشين الإسرائيلي وجيش النظام يدل على أن للنظام معلمين يستفيد من خبراتهم في الوحشية والقتل والتدمير مع فارق كبير وهو أن من يقوم الجيش الاسرائيلي بقصفهم يعتبرون حسب وجهة نظره أعداء وغرباء، فيما يقوم جيش النظام بقصف ومحاصرة أبناء بلده.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية