طرحنا في العدد السابق سؤالا حول تخلفنا وهل نحن متخلفون فعلا، وقلنا إن الإجابة على هذا السؤال ليست بتلك البساطة التي قد يتخيلها البعض واستعرضنا الإجابات المتعددة والمتناقضة التي قدمها مفكرون عرب ولسوف نستمر في هذا العدد في البحث عن الإجابات وننتقل إلى مستوى أوسع في الحث ونطرح سؤالا جديدا وهو: هل نرى أنفسنا متخلفين فعلا؟ لماذا؟ من أسهم في ترسيخ هذه الصورة في أذهاننا؟.
حتى اقتنعنا بتلك الصورة المتخلفة عن أنفسنا؟ هل كانت هناك عوامل خارجية؟.
في كتابه الشهير (الاستشراق) يستعرض المفكر "إدوارد سعيد" تاريخ الصورة النمطية التي رسمها الغرب عن الشرق تاريخيا منذ هوميروس ويوربيدس واسخيلوس مرورا بتوما الإكويني وصولا إلى كارل ماركس وآرثر بلفورمؤكدا على أن الغرب كوّن قناعاته عن أهل الشرق المتخلفين ويرى في الاستشراق (أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى الشرق وما يسمى الغرب)، ويستنتج سعيد في كتبه أن قيمة الاستشراق تكمن في (كونه دليلا على السيطرة الأوربية – الأمريكية على الشرق أكثر من كونه خطابا صادقا حول الشرق) إذا الاستشراق هيمنة تدخل في نطاقها البعد الفكري أيضا ولا تقتصر على بعد اقتصادي تكنولوجي أو عسكري فهذا الاستشراق وفقا لسعيد هو الذي أنتج الاستعمار والهيمنة الاستعمارية الغربية على الشرق وهو في حد ذاته (الاستشراق) يقوم على فكرة التفوق الأوروبي على باقي البشر (لقد كانت الهيمنة وكل النتيجة العملية المترتبة على الهيمنة الثقافية هي التي كتبت للاستشراق استمراره وقوته وغالبا ما يقترب الاستشراق من فطرة أوروبا، أي الفكرة الجماعية التي تحدد هويتنا نحن الأوربيين وتفرق بينها وبين جميع الآخرين).
إذا كانت هذه الصورة التاريخية التي يحملها الغرب عن الشرق وهي صورة تاريخية لها جذور تمتد إلى الخلف آلاف السنين كيف وصلت إلينا هذه الصورة وكيف ترسخت في أذهاننا؟.
ربما نجد الإجابة في دراسة للباحث الفرنسي "بيير بورديو" حول العنف الرمزي فيقول في وصفه لهذا النوع من أنواع العنف بأنه (عنف لطيف وغير محسوس وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة اي عبر التواصل والتلقين المعرفي وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف).
ويضيف "بورديو" أن العنف الرمزي (ذلك الشكل من العنف الذي يمارس فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه).
فهل كنا ضحية لنوع من العنف اللفظي الذي مورس علينا تاريخيا؟ شخصيا أميل إلى تحليلات إدوارد سعيد، خاصة إذا ربطناها بأبحاث "بورديو" عن العنف الرمزي فهو لا يقتصر على ما قاله الباحث الفرنسي، وإنما يتجاوزه إلى مجموعة من المقولات التي يتم بثها في عقول الضحايا للقبول بما هو معروض عليهم من أفكار، وهنا لا بد من لفت النظر حول بريطانيا الصغيرة في المساحة وعدد السكان والتي استطاعت السيطرة على دولة ضخمة مثل الهند، بالتأكيد لم يكن ذلك بالقوة العسكرية وحدها ولا بالهيمنة الاقتصادية فجيوش بريطانيا كانت موزعة على معظم مساحة الأرض وهذه الجيوش أصغر بما لايقاس مع كثير من أعداد الدول التي خضعت لسيطرتها ومن ضمنها الهند ومصر والولايات المتحدة ذاتها، إذ لا بد من وجود عناصر أخرى أسهمت في الاستكانة للاحتلال الانكليزي لبلد كبير جغرافيا وسكانيا مثل الهند إنه العنف الرمزي أو لنقل الاستعمار الفكري والثقافي، لا بد من وجود قناعة ما لدى شعوب الدول الواقعة تحت سيطرة الاستعمار الانكليزي بأن حضور الانكليز في بلدهم فيه منفعة لهم وخير لبلادهم، هناك ايديولوجيا ما تم زرعها في أذهان سكان تلك المستعمرات، وهذا ما يمكن سحبه على الوضع في الشرق العربي واعتقد أن سكان المنطقة تعرضوا لغزو ثقافي وفكري (عنف رمزي) مشابه وطويل الأمد، ومن هنا أجدني ميالا لأبحاث إدوارد سعيد في كتابيه (الاستشراق) و(الثقافة الامبريالية) وأعبر أيضا عن قناعتي بأن الغرب وعبر قرون طويلة رسم تصوراته عن سكان الشرق وأنه عمل على زرع تصوراته تلك في أذهان الكثيرين من أبناء المنطقة حتى بتنا مقتنعين بتخلفنا وبأننا أدنى من غيرنا على الصعيد الحضاري.
للشاعر أدونيس رأي آخر في هذا الموضوع فهو يعارض ما قاله إدوارد سعيد، ويرى الصورة معكوسة فيقول إن الغرب أخذ عن الشرق كل شيء الشعر والأدب وحتى الديانات وأن (الحضارة الغربية عبارة عن حضارة تكنولوجية لقيطة) وسوف يكون لنا عودة لردود أدونيس على كل من سعيد وغيره.
ننتقل إلى نقد آخر تعرض له كتاب الاستشراق ومؤلفه إدوارد سعيد وجاء هذه المرة بقلم الباحث الدكتور صادق جلال العضم الذي وضع كتاب (ذهنية التحريم) خصص القسم الأكبر منه للرد على سعيد واستشراقه ضمن فصل (الاستشراق والاستشراق معكوسا) فينتقد التصورات التي طرحها سعيد في كتابه ذاك معتبرا ان شرح سعيد كان شرحا نصوصيا قائما على تفكيك نصوص أدبية وأنه (سعيد) قدم الكسألة معكوسة إذ إن الاستعمار – وفقا للعظم- لم يأت كنتيجة للاستشراق بل إن العكس هو الصحيح.
في الحقيقة أجدني هنا مضطرا للتذكير بأن تصورات الغرب عن الشرق لم تكن مجرد صورة أدبية جاءت في نصوص شعرية وأدبية، بل هي قناعات راسخة حتى عند كبار القادة السياسيين والمفكرين الأوربيين منذ عهد اليونان.
وأذكر حادثة أوردها الباحث الدكتور إمام عبد الفتاح إمام في كتابه (الطاغية) يصف فيها الباحث إعجاب الاسكندر المقدوني بالديانة التي كانت منتشرة في الشرق (بلاد الشام ومصر) وهي ديانات عبادة الملك أو الحاكم ولأن الاسكندر من طينة البشر فقد وجد الفكرة مغرية وأحب أن يطرح نفسه كإله أو ابن إله لكن ضباط جيشه وكبار قادته حذروه من هذه الفكرة ومن إراءات نقلها إلى أثينا ذلك أن – وفق ما أورده الدكتور إمام – أن أحد كبار قادته قال له: إن أهل الشرق تعودوا على العبودية منذ القديم أما أبناء أثينا فهم رجال أحرار ولن يقبلوا بهذه الفكرة).
إذا المسألة ليست نصوصية، بل هي في أذهان كبار قادة الغرب ومنذ القديم، منذ آلاف السنين يرى الأوربيون أن أبناء الشرق عبيد وأنهم يحملون فكر العبيد.
لا يتوقف الأمر عند هذه الحادثة فحتى كارل ماركس يرى أن أبناء الشرق غير مؤهلين للحكم فيقول في رسالته إلى لويس بونابرت عن أهل الشرق (إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم ولا بد أن يمثلهم أحد) ما يؤكد أن الأمر ليس نوعا من الخيال الأدبي، وإنما هي تصورات وقناعات مترسخة قديما وحديثا.
وأرى أن هناك صلة واضحة بين الاستشراق بصيغته (السعيدية) وما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا حول أن (الإسلام في أزمة)، كما أنه لم يحن الوقت بعد لتغيب عن أذهاننا الفكرة التي استندت إليها عصبة الأمم المتحدة في تبريرها للاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية، تلك الفكرة القائمة على أن سكان المنطقة غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم وأنهم بحاجة إلى مساعدة من (الغرب المتطور) ليتمكنموا من حكم بلادهم.
هذه الصورة ليست نصوصية وهي قائمة على التفوق العرقي – العنصري الذي يرى في الشرق شعوبا متخلفة غير قادرة حتى على حكم نفسها وإقامة دولها دون الاستعانة بالغرب المتطوروالمتفوق حضاريا.
هل كان أجدادنا من دعاة عصر النهضة ضحية من ضحايا العنف الرمزي الذي تحدث عنه بيير بوردو؟ أم أنهم كانوا محقين في حديثهم عن تخلفنا وعن وجوب اللحاق بركب البشرية التي قطعت أشواطا كبيرة في سباقات المسافات الحضارية الطويلة؟.
البعض يرى أن ما حدث في عصر اليقظة العربية لن يتكرر ولن تعود الدعوات إلى النهوض والانتقال من حل التردي إلى حال الحضارة للظهور مرة أخرى فما حدث خلال فترة (اليقظة) كان عبارة عن اصطدام بين جسمين أحدهما متحرك (الغرب) والآخر ثابت (الشرق)، فكان أن تحرك الشرق الثابت من مكانه وتزحزح قليلا بفعل العطالة الناجمة عن هذا الاصطدام العنيف والدليل خفوت وانطواء اصوات اليقظة لحساب علو وصراخ أصوات التراث وحمايته والعودة إليه لأنه مبعث الحضارة الغربية كمنا يرى أدونيس.
البعض يقرأ تخلفنا من خلال الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان على طول الخط لصالح إسرائيل تلك الدولة الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها الستة ملايين نسمة، فيما تجاوز عدد العرب حاجز الأربعمائة مليون نسمة، فعجزنا بهذا الكم البشري الهائل وتفوقنا السكاني الكبير على إسرائيل لا يعني إلا شيئا واحدا أننا شعوب متخلفة وإسرائيل دولة متطورة تقنيا وعلميا وصناعيا وحضاريا ومعرفيا.
وهنا أرى أنه لا بد من العودة إلى إدوارد سعيد وكتابه (الاستشراق) والذي يربط فيه بين المعرفة والسلطة ويقول إن تزاوجهما من شأنه أن يجعل أي تخيل وأي تصور حقائق شبه علمية، ووفقا لذلك هل إسرائيل متطورة ومتفوقة على العرب جميعا حضاريا وصناعيا ومعرفيا؟.
الباحث الكبير ياسين الحافظ يرى في كتابه (الايديولوجيا المهزومة) أن موضوع التفوق الإسرائيلي أشبه بكذبة أسهمت في صنعها الأنظمة العربية لتبرير عمالتها وتقاعسها وعجزها وأنا أميل شخصيبا إلى تصديق هذه المقولة فعلى الصعيد الصناعي مثلا لا يصل عدد الطبقة العاملة في إسرائيل إلى واحد على عشرة من عدد الطبقة العاملة في اي بلد عربي وعلى الصعيد الاقتصادي مازالت إسرائيل تعيش على المساعدات الأميريكية والأوروبية، فيما تبلغ ميزانيات بعض الدول العربية تريليونات الدولارات وهي تقدم المساعدات لمن هب ودب متناسية أوضاع شعوبها وباقي الشعوب العربية وعلى الصعيد، فإسرائيل حسب رأيي وتفوقها العظيم على جميع العرب لا يعدو عن كونه كذبة كرستها الأنظمة العربية في نفوسنا لتعزيز الهزيمة وتكريسها وتكريس فكرة الشعوب المهزومة العاجزة لتمرير بقاء دكيتاتورياتها المنحلة والفاسدة.
*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية