أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

البحث عن النهضة المفقودة (2) .. هل نحن متخلفون فعلا؟*

أريحا - جيتي

ولكن هل نحن متخلفون فعلا؟ وهل نحتاج حقيقة إلى نهضة شاملة لنواحي الحياة كافة؟ رغم ما يبدو عليه السؤال من بساطة ورغم الإجابة التي يراها الكثيرون طبيعية، إذ إن الأغلبية ستقول نعم نحن متخلفون ونحتاج إلى ثورة حقيقية للخروج من واقعنا المتخلف هذا، إلا أن الأمور في الواقع أعقد بكثير من إجابة قد تبدو للبعض بديهية فلا أيام اليقظة العربية في منتصف القرن العشرين ولا في أيامنا الحاضرة كان الاتفاق تاما على الحاجة لنهضة أو يقظة جديدة فالأصوات التي تعلن أننا كمجتمعات عربية مخدوعون بمفاهيم صدرها لنا الغرب ومنها (خرافة التقدم والتخلف)1 ويؤيدها قسم آخر من الباحثين معتمدا على مقولة أن الأنظمة الديكتاتورية قد كرّست في نفوسنا كأفراد فكرة أننا متخلفون عن الغرب لتبرير استبدادهم وتأكيد سياساتهم بأن الشعوب العربية لا تستحق الديمقراطية لأنها لم تبلغ بعد مرحلة النضوج الفكري مثل الشعوب الأوروبية التي استحقت الحرية حين بلغت مرحلة الكمال الفكري والأخلاقي والاقتصادي.

إذا لا يوجد اتفاق على مفهوم التخلف والتقدم ولا حتى اتفاق على أننا أصلا في حاجة ماسة إلى نهضة حضارية خاصة إذا كنا نرى في العالم الأوروبي (كوبرنيكوس) على حد تعبير الباحث جورج طرابيشي والذي يرى أن الغرب الذي ظلم كوبر نيكوس مكتشف حقيقة دوران الأرض وأنها ليست مركز الكون فجعلت أوروبا من نفسها كوبرنيكوس العالم وبالتالي، فإن العرب جعلوا من أوروبا كوبرنيكسهم فـ (الإنسان الغربي اكتشف على مضض أن الأرض ليست مركز الكون فإنه جعل من ذاته ومن حضارته مركز الأرض وحتى النسبية التي لقنه كوبرنيكوس أولى دروسها الموجبة للتواضع سرعان ما تحولت بين يديه إلى سلاح رهيب من أسلحة التفوق على العالم غير الغربي العالق في دبق النزعة المطلقة المانعة لكل حركة والشالّة لكل تقدم لذلك فإن الشطر غير الغربي يرى في الجانب الغربي (كوبرنيكسه)2.

وتلتقي فكرة طرابيشي هذه في كثير من جوانبها مع موقف الباحث الدكتور جلال أمين، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية الذي يقول في كتابه (خرافة التقدم والتأخر) بدعة اخترعها الغرب، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن العالم لا يعيش صراع حضارات، وإنما هي حالة حضارات تتعدى على غيرها من الحضارات، كما يؤكد أمين على أن (لا صحة للاعتقاد بأن التاريخ الانساني تاريخ تقدم متصل من الأسوأ إلى الأفضل)3، مضيفا أن الغاية من نشر هذه الثقافة المقتنعة بالتخلف هو (الوصول إلى نمط الحياة الأمريكية الحالي)4.

وعند هذه النقطة يفترق الباحثان كليا فجورج طرابيشي رغم قناعته بموقفه السابق، إلا أنه يرى أننا متخلفون فعلا وأننا نحتاج إلى نهضة وأن المطلوب هو كشف الواقع على حقيقته وليس التستر على عيوبه ونواقصه ويرد طرابيشي أسباب تعالي البعض عن الاعتراف بالتخلف إنما يعود لمفهوم نفسي تحدث عنه فرويد وأسماه (الجرح النرجسي) فالبعض يدفعه شعوره بنكء كبريائه النرجسي إلى معالجة هذا الجرح عبر الإنكار والتستر والتعالي، وهذا لا يعني أن جلال أمين ربما وقع في ذات المطب أو أنه وقع فيه دون قصد وهذا ما سنعود إليه لاحقا، ولكننا نتابع مع طرابيشي الذي يقر بوجود نهضة بدأت في القرن التاسع عشر وتم إجهاضها، ولكنه يضيف أسبابا أخرى غير التي تم ذكرها في كثير من الأبحاث عن أسباب النهضة، فيرد بعض تداعيات النهضة إلى عوامل نفسية فيقول في كتابه (من النهضة إلى الردة): "من هذا الجرح الأنتروبولوجي الفاغر فمه على جدلية المركز والمحيط وشفته الأخرى على جدلية الزمانية والمكانية ولد عصر النهضة العربية".

إن العلاقة بين جورج طرابيشي وجلال أمين في هذا المبحث قد تبدو متعارضة للبعض ومتوافقة المواقف للبعض الآخر، ولكنها في الحقيقة علاقة يشرح أحدها الآخر، فللباحث جلال أمين أجداد يشبهونه في محاولات إنكار المشكلة والتعالي عليها وكان طرابيشي قد تصدى لمهمة شرح هذه المواقف التي انطلقت وفق طرابيشي من مبدأ الكبرياء النرجسي، هذا المصطلح الذي استعاره طرابيشي من سيغموند فرويد وألبسه على أحد أهم قامات النهضة العربية ونقصد به قاسم أمين (لاأدري إن كان هناك صلة قرابة بين قاسم أمين وجلال أمين رما يكون قاسم أحد أجداده)، ولكن ما عنينا هنا ليس صلة القرابة في النسب والدم وإنما صلة القرابة في الفكر أيضا ذلك أن قاسم أمين وقع في مطب الجرح النرجسي كما يرى طرابيشي.

ففي العام 1894 وضع قاسم أمين كتابه الأول (المصريون) باللغة الفرنسية وجاء ردا على انتقادات وجهها الدوق الفرنسي (داكور) الذي انتقد فيه مصر وعادات المصريين ما أثار جرحا نرجسيا عند قاسم أمين فكانت ردوده في كتابه المشار إليه تنزف حبرا مجروحا في كبريائه.

ولعل الحال هنا ينطبق على الدكتور جلال أمين الذي ينكر وجود تخلف عربي معتبرا أن التقدم والتأخر محض (خرافة) بل أني أرى شخصيا أن معظم كتابات جلال أمين إنما صدرت من ذات النقطة التي يركز عليها طرابيشي (الجرح النرجسي).

في العام 2006 قال بوريس جونسون الذي كان يشغل منصب وزير خارجية بريطانيا آنذاك إن "الإسلام هو سبب تخلف المسلمين عصورا طويلة"، وأضاف "تصل المرارة والبلبلة حد إشعال فتيل كل الأزمات العالمية التي تحضر في الذاكرة بدءا بالبوسنة وفلسطين وصولا إلى العراق وكشمير بسبب مظلمة إسلامية أو أخرى".

مواقف جونسون هذه صدرت في جريدة "ذا غارديان" البريطانية كملحق عن كتاب له يدور حول الإمبراطورية الرومانية قال فيه: "لا بد وأن يكون في الإسلام ما يفسر عدم بروز الطبقة البرجوازية الرأسمالية الليبرالية وبالتالي عدم انتشار الديمقراطية في العالم الإسلامي).
هذا الكلام الظالم فعلا من شأنه أن يثير حماسة الكثيرين ومنهم جلال أمين للدفاع عن الإسلام وعن المسلمين، ولكن لا عن طريق التعمية وتغطية الواقع المتخلف، وإنما عبر تفسيير هذا الواقع وشرح أسبابه وبأننا متخلفون فعلا، لكن ليس الإسلام السبب وإنما هناك أسباب كثيرة لا علاقة للفكر الإسلامي بها لا من قريب ولا من بعيد، أما أن يكون الرد على تصريحات جونسون بنفي الحاجة للنهضة وبإنكار تخلفنا وتأخرنا عن الركب الحضاري العالمي، فهذا في رأيي تعمية للواقع أو تعال عنه والكتابة من برج عال يشبه البرج الذي كان يكتب منه توفيق الحكيم.
للإقرار بأننا متخلفون أم لا، يجب علينا الآن الذهاب إلى تعريف التخلف ورصد أشكاله وخصائصه وصوره، وما هي الأحكام التي ننطلق منها للحكم على مجتمع ما بأنه متخلف أم لا، ولسوف تكون لنا عودات كثيرة على الباحثين طرابيشي وأمين لأهميتهما ومكانتهما البحثية في هذا المجال.

*تعريف التخلف
ظهر مفهوم التخلف والتقدم مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ازدياد التغلغل الأوربي – الاستعماري ودلالاته في الشأن المحلي للمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام وإن كان البعض يرده إلى الصدمة التي أحدثها الالتقاء العربي مع الحضارة الغربية في بدايات القرن التاسع عشر مع الحملة الفرنسية وما تلاها من تطورات كمشروع محمد علي مصر ومشروع ابنه ابراهيم باشا في بلاد الشام وغيرهما من المشاريع، ولكن الحد الفاصل هنا لا يكمن في اكتشاف التأخر فقط، بل وفي محاولات الغريق ربط المنطقة اقتصاديا باقتصاده لتكون تابعة له ومفصلة على قياس احتياجاته الصناعية، ومع أني شخصيا أرى أن البعض يغفل أسبابا كثيرة وهامة سنعود إليها فيما بعد، ولكني أريد التذكير هنا بدور البعثات التبشيرية الأوروبية الأمريكية التي مهدت لظهور فكرة التخلف، وقد سبق وأشرنا إلى أن الحديث حول التخلف ليس بهذه البساطة وكلما تعمق المرء في الموضوع اكتشف تشعباته وتداخلاته وصعوبة البحث فيه، ولكننا سنركز الآن في هذا الفصل على تحديد مفهوم التخلف، وذلك بالاستناد إلى مراجع هامة منها كتاب التخلف الاجتماعي للدكتور "مصطفى حجازي" الذي يرى أن (البلدان النامية حاليا مختلفة عن بقية العالم) 4.

الأهم في الكتاب ما ينقله الباحث من نظريات توصف التخلف وتضع صورته في إطار يمكن فهمه.

*الطريقة السطحية في دراسة التخلف
تقوم هذه النظرية على تعريف الظاهرة بأغراضها والنموذج عنها هو الدراسات الصادرة عن الأمم المتحدة حول الفقر والتغذية والصحة والتعليم ومتوسط دخل الفرد وهنا تقسم البلاد (وفقا للمرجع السابق) إلى عدة فئات من الأكثر تخلفا إلى الأكثر تقدما، فالبلاد من الفئة الأولى هي التي يقل دخل الفرد فيها عن مائة دولار أما في البلدان الصناعية المتقدمة فيتجاوز دخل الفرد فيها 100 دولار .

لهذه النظرية عدة محاذير في رأينا منها أن تحديد الدخل المتوسط للفرد قد يكون مضللا فليس كل الأفراد في الدول الصناعية يحصّلون هذا الدخل المرتفع كما أن هناك أفرادا في الدول المتخلفة يتجاوز دخلهم الألف دولار بكثير ، كمان أن توزيع الناتج المحلي القومي على عدد السكان لا يعطي معلومات دقيقة عن الوضع الاقتصادي للفرد، فتوزيع الناتج القومي لا يكون متساويا في الغالبية العظمى من الحالات.

ويلمح الدكتور "مصطفى أمين" إلى عيب آخر في هذه النظرية وهي إهمالها لـ (ظاهرة الغنى المفاجئ للبلدان البترولية دون أن تعكس هذه الثروة تطورا في البنى الاقتصادية والاجتماعية ويرتقي بها إلى مستوى الدول المتقدمة)5.

ويرى "حجازي" أن الطريقة السطحية تعرف التخلف (كظاهرة دونية)6 فالبلدان المتخلفة أقل قدرة على تقديم الغذاء والتعليم والخدمات لمجتمعاتها من البلدان المتقدمة، ولكن (هذا التعريف لا يستقيم نظرا لعدم توحيد المعايير من ناحية، ولصعوبة المقارنة بين الدول المتقدمة والمتخلفة من ناحية ثانية، ولوجود بلدان غنية حاليا، ولكنها ما تزال متخلفة اجتماعيا من ناحية ثالثة.

*الطريقة الاقتصادية لدراسة التخلف
تعتمد هذه الطريقة على دراسة المستوى التقني للتصنيع ومن ثم الاهتمام بدراسة البنى الاقتصادية للبلد المتخلف (وهو مستوى يذهب باتجاه مزيد من العمق والشمول في البحث عن ديناميات التخلف).

ثم يسهب الباحث "حجازي" في سرد النظريات التي تدرس التخلف وآلياته ونرى أن الاكتفاء بذكر هاتين النظريتين يعطي فكرة ما ولو ناقصة بعض الشيء عن حالتنا في المنطقة العربية، ولولا خوف الوقوع في الإطالة لكتبنا حول الموضوع أكثر، ولكن ما نريد تأكيده هنا أن كل ما ذكرته نظريات التخلف على اختلاف مواردها ومصادرها، إنما تنطبق حرفيا على دولنا العربية، إن كل بند في أية نظرية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك في أننا متخلفون وأن العالم سبقنا بمراحل في جميع مناحي الحياة، ولكن هل يعني ذلك أن هذه النظريات صحيحة بالمطلق؟ هل نحن متخلفون فعلا كما يرى "جورج طرابيشي والياس مرقص" وكثير غيرهما من الباحثين أم أننا لسنا كذلك وأن الأمر كله لا يعدو عن كونه كذبة ووهم زرعه الغرب في عقولنا لغايات معينة وكرستها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة وأيضا لغايات معينة على ما يرى الدكتور جلال أمين وفريقه؟.

*فؤاد حميرة - من كتاب "زمان الوصل"
(322)    هل أعجبتك المقالة (326)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي