أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

صناعة الخوف... فؤاد حميرة*

عبر خمسين عاما لم يتوقف النظام الديكتاتوري عن استخدام عامل الخوف - جيتي

هل يسمح المجتمع الدولي ببناء دولة إسلامية متطرفة في سوريا؟ ماذا نعرف عن مقررات جنيف؟؟

يلعب الخوف ومنذ وجود الإنسان على وجه الأرض، دورا مميزا في تغيير سلوكيات الأفراد والجماعات، فالخوف كان عاملا حاسما في تشكيل الجماعات، وتكوين الإنسان الاجتماعي الميّال للعيش مع الآخر بسبب الحاجة والظروف الصعبة التي كان يعيشها أجدادنا الأوائل.
وعبر التاريخ، عرف المسيطرون على التكوينات والتجمعات البشرية، كيفية استغلال عامل الخوف في خلق مجتمعات مرتابة تحتاج للتعاون أحيانا، وللطاعة المطلقة أحيانا أخرى، بل إن كثيرا من البشر في عصرنا الحاضر، قرروا (طواية) التنازل عن بعض حرياتهم، عن بعض إنسانيتهم في سبيل الحفاظ على الأمن، وخوفا من الشر القادم المجهول.

ولقد عرفت الحكومات الاستبدادية –قديمها وحديثها- أشكالا متنوعة ومتعددة لصناعة الخوف وتعزيزه في نفوس شعوبها، وذلك بهدف الحصول على أغراض تخدم تعزيز سلطتها على البشر وتمكينها من تحقيق غاياتها وأهدافها، ونحن إن كنا في هذه العجالة لا نريد الاستفاضة في شرح دور الخوف عبر التاريخ، فهذ شأن الفلاسفة وعلماء التاريخ، فإننا سنقصر بعضا من حديثنا على دور الخوف في الحالة السورية الراهنة، والقوى التي لعبت على هذا العامل في سبيل وصول ثورتنا إلى هذا المأزق الذي تمر به، ونحن إذ لا ندعي أننا نحتكر الحقيقة كاملة فإننا ندعو الجميع للمساهمة في تصويب المقال وتصحيحه أو إغنائه عبر النقاش وتبادل الآراء.

اشتغل النظام وبنجاح على استثمار عامل الخوف لتكريس الانقسام في المجتمع السوري ولتعزيز حالة القلق والارتياب بين مكوناته وخاصة بين الأقليات الطائفية والذهبية وبين الأكثرية، معتمدا على بعض حوادث التاريخ البعيد لجعل حكاياته المرعبة نوعا من الحقائق التاريخية، وذلك على الرغم من أن تاريخ البشرية جمعاء لا يخلو أبدا من حوادث مشابهة ومتكررة على مدى الزمن المعروف والمؤرخ، فتاريخ البشرية في عمومه تاريخ صراعات لأسباب متعددة، قد ترتدي أحيانا ثوبا دينيا، ولكنها في حقيقة الأمر صراعات على المصالح والنفوذ، وتبقى الشعارات الدينية مجرد أسباب مباشرة أو معلنة للحروب والصراعات.

فجميعنا يعرف كيف استغل النظام فتوى "ابن تيمية" لتعزيز الخوف من الغالبية السنية لدى الطائفة العلوية وغيرها من الأقليات الدينية، علما أن أحدا من الحكام والأفراد في تاريخ السنة لم يعمل بموجب هذه الفتوى أو ينفذ أيا من بنودها، لكن هذه الحقيقة يتم طمسها في الغالب والتعمية عليها كحقيقة، بهدف الإبقاء على حالة الخوف من الآخر، ولن نغوص في التاريخ عميقا كي لا نضيع عن صلب موضوعنا، وقد يكون لنا وقفة مع تاريخ الخوف في الحيز الجغرافي المعروف حاليا باسم سوريا.

عبر خمسين عاما لم يتوقف النظام الديكتاتوري عن استخدام عامل الخوف، متكئا على جملة من الحكايات والخرافات التي لا أصل لها ولا أساس من الصحة، وعبر التكرار أصبحت هذه الخرافات حقائق ثابتة في أذهان الكثيرين، ناهيك عن مسألة المصالح الخاصة التي خلقها النظام بينه وبين الأقليات، بحيث يصبح الخطر مضاعفا، خوف على المصالح والمكتسبات من جهة، وخوف على الوجود من جهة أخرى.
وحين احتاج النظام للخوف وجني ثمار عمله عبر نصف قرن، كانت النتائج مريحة بالنسبة له، فاصطفت الأقليات (بفعل الخوف المصنّع) خلف النظام، مقتنعة بأنه يحميها من الأكثرية التي تريد التخلص من الأقليات وتخليصها من مكتسباتها وإنهاء مصالحها ووجودها.
لا تقف نجاحات النظام في استثمار عامل الخوف عند هذه الحدود، فلقد تعداها لإقناع قطاع من السنة أيضا بأنه (النظام) الخيار الأفضل لمستقبل سوريا، بالرغم من كل الجرائم والفظاعات التي ارتكبها، فالخوف من حكم الإسلاميين المتطرفين دفع بفئات من السنة إلى الابتعاد عن الثورة، وبعث القلق في نفوس السوريين حول مستقبل البلاد ومصيرها القادم إن نجح الإسلاميون في السيطرة على الحكم في البلاد، ولعل هذه الخوف انتقل بالعدوى أيضا ليصيب بعض الشعوب الأوربية مندفعين وراء الصورة التي يصدرها النظام عن الثورة والتي أسهمت (وللأسف) بعض الفصائل العسكرية في تكريسها وجعلها حقيقة ماثلة لا تقبل النقاش عبر تبنيها لخطاب طائفي متطرف، وتصديرها لصور ومشاهد لعبت دورا في إثارة نوع من الارتداد الإنساني ضد الثورة ومنطلقاتها وأهدافها.

إن الاستمرار في استغلال عامل الخوف، والاستمرار في تصديق روايات النظام بفعل الخوف والقلق، دفع بالكثير من السوريين إلى نسيان مسألة مهمة وهي قرارات جنيف والتي تؤكد جميعها على مدنية الدولة وعلى أنها ديمقراطية مدنية، حيث جاء في نص ميثاق جنيف حول سوريا: "تكون ديمقراطية وتعددية بحق، وتتيح حيزًا للجهات الفاعلة السياسية القائمة وتلك التي نشأت منذ عهد قريب لتتنافس بصورة نزيهة ومتساوية في الانتخابات". ويعني هذا أيضا أن الالتزام بديمقراطية متعددة الأحزاب يجب أن يكون التزامًا دائمًا يتجاوز مرحلة جولة أولى من الانتخابات؛ تمتثل للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، واستقلال القضاء، ومساءلة الحاكمين، وسيادة القانون.

وليس كافيا أن يقتصر الأمر على مجرد صياغة التزام من هذا القبيل، فمن اللازم إتاحة آليات للشعب لكفالة وفاء الحاكمين بتلك الالتزامات؛ تتيح فرصًا وحظوظًا متساوية للجميع. فلا مجال للطائفية أو التمييز على أساس عرقي أو ديني أو لغوي أو غير ذلك.

ويجب أن تتأكد الطوائف الأقل عددًا بأن حقوقها ستحترم، إن تهرب النظام من مفاعيل جنيف وإصراره على الذهاب الى اجتماعات أخرى مثل استانا وسوتشي، لا يعني فقط تهربه من بند المرحلة الانتقالية وإنما يعني أيضا تخوفه من انهيار اسطورته نهائيا، فلا خوف من حكم إسلامي متشدد وفقا لما جاء في وثائق جنيف، ولا دور لقوى عسكرية أو فصائل مسلحة في مستقبل البلاد، ولا حديث عن أغلبية طائفية، وإنما يجري الحديث وفقا للوثيقة حول تنافس حزبي –سياسي وهذا ما يكشف حقيقة خداع النظام للناس وأساليبه في استثمار الخوف تاريخيا، للحصول على مكاسب مستقبلية.

إن السذاجة التي يتعاطى بها بعض قادة المعارضة، يدفعهم للتركيز عبر وسائل الإعلام على بند المرحلة الانتقالية وأن لا وجود للأسد في مستقبل سوريا، وهذا التمسك على أهميته، ينقصه التعريف بباقي بنود جنيف التي يعتم عليها النظام بشكل متعمد وتتناساها المعارضة بشكل ساذج.

*من كتاب "زمان الوصل"
(181)    هل أعجبتك المقالة (192)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي