للبؤساء فقط .
مع زقزقة ِ العصافير ونسمات الهواء اللاسعة فجرا ً ... خرج َ آدم وفي صدره ِ أطنان ٌ من الغل ِ المتقد , التي ورثها بسبب والده القاسي عليه وعلى عائلته ِ البائسة .
توقف أمام ساحة ِ الحي الكبيرة التي يجتمع فيها ورفاقه كل يوم ..
وضع أصابعه ُ في فمه ِ مطلقا ً صفارة الاجتماع .
أخذ الصغار يظهرون من كل صوب وكأن هناك عرضا ً لسباق ٍ ما أو اجتماع عسكري للتفقد.
أشار بإصبعه ِ إلى الجميع وهو يتمتم بأرقامهم ...
ثم أضاف :
ـ أين فؤاد ؟
أجاب أشعثهم بصوت ٍ مقطَّع : إنه ُ مريض ..
البارحة تلقى لكمة من والده ِ كسرت له أنفه ُ !.
ـ لماذا .. ؟
ـ لأنه لم يأت ِ بالمبلغ المطلوب .. فكل ما أتى به فؤاد , لا يكفي ثمنا ً لحقنة ....
ولا لثمن المشروبات الروحية ِ !!.
طأطأ رأسه ُ وأشار إليهم أن يتبعوه ..
كلٌ منهم له عمله ُ ( مهمته ) .
آدم المدير المالي والرئيس العام . إذ يجمع ما حصدوه آخر النهار ويقسِّـم المبلغ إلى قسمين . قسماً بينهم والقسم الآخر يعود لصندوق المتسولين, وهذا الصندوق متكفل ٌ بالتأمينات الصحية والاجتماعية وغيرها من تأمينات الحياة .
فؤاد كان الخازن وبسبب بعض الاختلاسات من الصندوق من قبل الأصدقاء وصلَ إلى خسارة ٍ فادحة لا تعوض , وجرى له الذي جرى بيننا منذ حين .. وأمس مع والده .
أما عن بقية ( الشلة ) فمنهم رئيس قسم الاستراتيجيات والتخطيط .. ومنهم النائب ..
ومنهم السكرتير التنفيذي والموزع الأساسي لأمكنة التسول والنقاط الحساسة .
ومنهم مدير على دكة الاحتياط .
بينما هم في طريقهم إلى العمل وعلى أوجههم ترتسم علامات ُ الكآبة واليأس من يوم عصيب ٍ .. حيث ُ غياب الخازن سيشكل لهم عائقاً كبيراً في ادخار المبلغ الاحتياطي .. وغيرها من عواقب مادية .
توقف فرد ٌ منهم قائلا ً :
سأستلم بدلا ً عن فؤاد خازنا ً للصندوق وبيت مال المتسولين في حيينا ريثما يتعافى .
تعالت الأصوات بين معارض ومؤيد !!..
حتى بدتْ علامات التمرد تتغلغل بينهم .
صرخ المدير العام بحنق : ما بكم ... ؟!
علينا أن نكون يدا ً واحدة .
صمت الجميع , ومضى كل ٌ منهم إلى موقعه ِ بعد أن أخذ خطته ُ اليومية .
أغمض النهار مقلتيه وكل شخص بينهم يمارس عمله .
منهم الذي يبكي بين المارة ليعطفوا عليه ويعطوه بضعا ً من القطع النقدية
والذي ينام على الرصيف وأمامه وعاء ٌ فيه بعض النقود !..
وآخر ٌ معه ُ ميزان ٌ يزن عليه ِ ظلال العابرين وإذا ما جاءته امرأة ٌ بدينة لتزن شحمها
فيقول لها مع التلاعب بعداد الميزان : وزنك ِ خمسون كغ يا سيدتي !!! , لتركض من الفرح تاركة ً له مبلغا ً لا بأس به ِ .
وبعضهم يجلس عند عتبات المتخمين مرددا ً كلمة جائع .. جائع ..
أما آدم المدير العام , فمعه ُ شخصان وقد شكلوا دورية ً يمرون بها على النقاط والمواقع جامعين الغلة مع بعض كلمات التشجيع ورفع المعنويات الهابطة وترطيب الأجواء الساخنة .
في الليل وكالمعتاد مثل كل يوم اجتمع الأصدقاء في المكان المحدد , لتبدأ القسمة , وعلى حين غرة .. ودون أن ينتبهوا فاجأهم انقضاض رجال الشرطة عليهم مع الترهيب والتوعُّد والشتائم النابية .
ألقوا القبض عليهم باستثناء المدير العام ـ آدم ـ
اقتادوهم إلى مخفر الشرطة واجمي الوجوه والرعشة تعتري أجسادهم .
زجوا بهم في الزنزانة بعد أن صادروا أموالهم ـ غلة اليوم الدسمة ـ
نام الجميع مكفهري الوجوه يتوعدهم مصير ٌ مظلم .
في اليوم التالي أخرجوهم للتحقيق.. كانوا يمشون الواحد تلو الآخر على شكل رتل أسرى .. أمعاؤهم تعزف لحن الجوع والوجع .
دخلوا إلى الضابط المسؤول بخوف شديد ..
كان الأخير يجلس على كرسيه ِ .. له شارب ٌ عظيم ٌ الانتصاب , وكرشه مشرئبة تكاد تخفي عنقه.
ـ أيه يا أولاد الـــ ... ؟!
أردف قائلا ً بعد ذلك : ما أسماؤكم ؟
أجاب الجميع بعشوائية ٍ مرتبكة كل ٌ على حدا , اسمه وعمره ومكان ولادته ِ واسم أبويه ونسبه ووزنه والعلامات الفارقة في جسمه ِ و .. و.. كأنهم في امتحان ٍ قبول .
ـ لماذا تتسولون في المدينة ألم تعرفوا أن هذا العمل المشين يلوث ُ سمعة المدينة ويقلل من رواد السياحة في بلدنا يا كلاب ..؟؟
أجاب أقصرهم بعنفوان ٍ محارب ٍ قديم : نحن جياع وليس لدينا ما نعمل به ِ سوى هذي المصلحة فضلا ً عن توبيخ أهلنا لنا إذا لم نساعدهم في المعيشة .
ـ جياع ها .. !!!
أوراق ومخططات وطُرق جهنمية للتسول وإذعان أمام الناس وأساليب ملتوية وغيرها ..
ـ مَنْ يترأسكم يا حثالة ..؟
ـ لقد هرب , وهو المدير العام لنا والرأس الأكبر في رابطة المتسولين في حيينا .
ـ هرب ... ها ؟!
التفت التفاتة ً ملأى بالنزق إلى عناصر الشرطة وبدأ بالتوبيخ والشتائم والصراخ العالي :
ـ كيف هذا وأين ؟ .. ولماذا لم تلقوا القبض عليه يا أوباش .
رفع شخص من الأطفال إصبعه ُ وكأنه في درس ويريد الإجابة ...
نظر إليه الضابط بغضب وقال له : ماذا يا ولد ؟ أجب .
ـ الولد :
نحن أطفال وأهلنا يجبرونا على ذلك , وليس لدينا حيلة إلا التسول , وبالنسبة ِ لآدم على أنه هرب
هذا من المعتاد دائماً أن تهرب الرؤوس الكبيرة إلى خارج نقاط الخطر .
وآدم متسول ٌ ومسؤول صغير في شلتنا أمام من هرب ولم تستطيعوا الإطاحة به ِ
وفي جعبته ِ ما يكفي كل متسولي العالم .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية