ذكر رياض نعسان آغا مدير مكتب الرئيس حافظ الأسد بعضاً من ذكرياته في شؤون الإعلام والثقافة، في ندوة عنوانها: "سياسات النظام الإعلامية والثقافية، ولام في حوار مع نسرين طرابلسي المديرين التنفيذين الذين كانوا يزيدون الطين "بولة"، وسمعت علي فرزات يقول الأمر نفسه في كلية الآداب في جامعة حلب، ونحن لا نكذِّب الرجل، ولا نكذب ما جاء به أيضاً، ونظنَّ أن الأمر مردّه إلى البصر أو البصيرة، أو إلى أمر آخر سنؤجله إلى الوقت والزمان المناسبين، فهو ينعت الأسد مشكوراً بالاستبداد، والمستبدون لا يصبّون على يد الأسد ماء.
الأسد مستبد: مرحى يا رياض آغا، لقد أضحكتني حتى فحصتُ بقدمي الأرض ونجحت في الفحص بتقدير ممتاز!
لم أجد أموراً مثيرة في شهادة فاروق الشرع في كتابه "الرواية المفقودة" بسبب بصره أيضاً، فعينه المعتادة على رؤية ما لم نعتد عليه لم تذكر سوى المفاوضات حول الجولان، والتي قطع فيها ملايين الكيلومترات جواً، وذكر أيضاً أن الأسد أثنى عليه ووصفه بأنه صديقه، فهنيئاً له بتلك الصداقة، وكنت أنتظر أن يصف المفاوضات بأنها كانت غاية ولم تكن وسيلة، لكن ليس هذا مربط البغل، فغايتنا بعد الوحدة والحرية والاشتراكية ورضا الوالدين، ذِكرُ أمثلة عن جود المستبد حافظ الأسد وفيض كرمه الذي غمر به السوريين، حتى أن العدو الإسرائيلي تنعّم بفيض كرمه، وأمن شره.
سنجتهد في عزل الخروف التشريعي عن الذئب التنفيذي بحكاية أو حكايتين إن وصلنا إلى نهاية المقال سالمين، بسبب قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد.
قال الراوي يا سادة يا كرام، صلّوا على خير الأنام: إنَّ حافظ الأسد كان في بداية أمره رفيقاً اشتراكياً، وأذكر أني سمعت رياض آغا في لقاء آخر يقول إن الأسد لم يكن يصحب حرساً حتى أواخر السبعينيات (مثل عمر بن الخطاب تقريباً)، لولا عملية الاغتيال المشؤومة، وشممت في تربة صوته إعجاباً بالأسد.
ثم ما لبث أن أصبح الرفيقُ السيدَ الرئيس والأبَ القائد، فالمرء لا يبقى على حاله ودوام الحال من المحال، وصار كل قانون حتى لو كان قانون طوارئ أو أحكام عرفية، أو زيادة راتب بسبب رفعه سعر الوقود، مكرمةً، فهو كريم ومن أصحاب الكرامات، وكان من جوده وكرمه السابغ، والعرب رأس أخلاقهم الكرم -أنه تبوّأ منصبه بمكرمة الجولان التي أفاض بها على إسرائيل، فهل رأيتم كرماً مثل كرمه!
ويعرف الجمع ممن ضمَّ مجلسنا، أنه منع إطلاق طلقة في عرس بجانب الحدود الإسرائيلية، بل حتى في أقصى الجغرافيا السورية، وكان من كرمه أنه إذا أغارت إسرائيل على سوريا تهدّد إعلامه العدو الغاشم وتوعده أنه سيرد عليها في المكان والزمان المناسبين اللذين لم يتطابقا قط، فُحرمت إسرائيل من فضيلة ردّه الكريم.
قال السيد رياض آغا إنَّ الأسد لم يكن يحتكر كل شيء، وكان الأسد قد جعل الإفراج عن معتقلي تَدْمر بيده، وترك الاعتقال للمديرين التنفيذين من المخابرات وصغار الكسبة..
وهكذا كانت القسمة العدل بينهم وبينه، هم يعتقلون، والأسد يطلقهم إن شاء، ولم يطلق إلا من كان على حافة قبره وكان من أقرانه، حتى يمشي في شوارع سوريا ويرى صوره الرئيس في كل زاوية من الوطن الحضن، ويموت قهراً من الأسد المتواضع الذي لم يضع ساقاً على ساق أمام الكاميرا العوراء.
ويروي الرواة أنَّ وفداً من شيوخ حماة استطاع أن يحظى بلقاء الأسد ورؤية وجهه الكريم، واشتكوا إليه بطش عناصره وتحرشهم بالنساء على الحواجز، فقال لهم على طريقة النمرود: ألا أستطيع أن أقتلكم الآن؟
فقالوا مذعورين: تستطيع.
فقال لهم: سأعفو عن قتلكم وأمنحكم حياة جديدة.
فعادوا كأنما ولدوا من جديد.
وقال إبراهيم عليه السلام للذي حاج إبراهيم في ربه: "ربي الذي يحيي ويميت"، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال النمرود: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياءً له.
أما أكرم عطايا المستبد الذي كان "يحيي ويميت" للمكرّم فهي التفضل عليه بصورة معه، فكأنَّ المكرّم حاز الدنيا بحذافيرها. ويروى الرواة والسيّارة عن المؤلف الدرامي التلفزيوني هاني السعدي الذي أدلى بدلوه، وذكر أن الرئيس أثنى على مؤلفاته في لقاء، من غير أن يبرهن على ذلك بالصورة، وتلك الصورة تعني تعويذة مثل خاتم سليمان في سوريا، الأسد يغمر صاحب الصورة بالكنوز الأسدية، مثل قرض تسليف شعبي معجّل، أو دفعة إسمنت مؤجل، أو رخصة هاتف، فتلك عطايا كبيرة في سوريا الأسد!
وقصة عضو مجلس الشعب السوري دياب الماشي التي رواها عمر أميرلاي فيلم الطوفان أنه طلب من الرئيس سيارة، فقال له: رُح يا بني الله يعطيك، أو شيئاً مثله. وكان الفائزون بمجلس الشعب ينالون منحة قدرها نمرة سيارة، وليست سيارة. فذلك كرم المستبد الذي لم يبلغه أو يدنو من أعتابه، حاتم الطائي ولا هارون الرشيد.
ونأتي إلى تفسير كرم الأسد، الذي كان المديرون التنفيذيون قاتلهم الله يسيئون فهم أوامره.
تقول حكاية شهيرة: إن أسداً وذئباً وثعلباً خرجوا إلى الصيد، ولا يخرج الأسد للصيد مع جمل وزرافة، فكلهم من طائفة واحدة، فاصطادوا أرنباً وغزالاً وحماراً. وعادوا بالغنائم إلى قصر الشعب، وسأل الأسد الرفيق الذئب أن يقسم الفرائس:
فقال الذئب: الحمار للأسد، والغزال لي، والأرنب للثعلب.
وتلك لعمري قسمة حكيمة، لكن الأسد ردَّ عليه بلطمة طيّرت رأسه.
والتفت الأسد ناحية الثعلب قائلاً: والآن جاء دورك في القسمة يا رفيق.
القسمة التي تخطر على الفكر هي أنَّ الأسد سيحظى بحصة الأسد، فيكون الحمار والغزال من نصيبه، ويصير الأرنب من حصة الثعلب.
لكن الثعلب قال بحكمة لا يؤتَاها إلا كل ذي حظ عظيم: الأرنب لفطورك سيدي الأسد، والغزال لغذائك، أما الحمار فلعشائك.
ابتسم الأسد وقال للثعلب معجباً بعقله وحكمته: من أين تعلمت هذه الحكمة يا أخو الشحاطة؟
رد الثعلب التنفيذي: من رأس الذئب الطائر سيدي.
ثم عيّنه مديراً لمكتبه.
الأسد مستبد.
شكراً يا أستاذ رياض آغا، لقد شممت رائحة قسمة الثعلب من وصفك له بالمستبد، وبرهانك على أن الأسد من العشاق العذريين، والتروبادور، بدليل أن نبيل سليمان وشوقي بغدادي وغيرهما مكثوا في سوريا من غير اعتقال أو طيران رأس أو نزوح، وهم يبدعون ويكتفون بالشنكليش والعظام، وبآيات عجائب الدراما السورية العظيمة أيضاً.
* من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية