أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

يوميات قاض سوري: ضحكات قاتلة!*

"يوميات قاض سوري"، الصادر عن دار نون 4 الحلبية، مذكرات ثمينة، ولها قيمة وثائقية وسياسية واجتماعية وقضائية وقانونية وسكانية وسياسية وفنية، وكان يمكن أن يكون قطعة أدبية فريدة. الأخبار العربية القديمة لم تكن أطول متناً، لكنها كانت أبلغ لغةً.

احتفظتُ بالقصة الثالثة والثلاثين للتعليق عليها، وكل قصص الكتاب ملهمة وتجمع بين الطرافة والعظة، وقد ذكّرتني القصة الثالثة والثلاثين بقصتين، واحدة لتشيخوف، وهي "موت موظف"، وهي أشهر قصصه على الإطلاق، وفيها يعطس موظف صغير اسمه إيفان ديمتريتش كريبكوف على صلعة موظف كبير، فيعتذر، مرة ومرتين، وثلاثاً، إلى أن يموت "حتف أنفه"، كما قال السموأل بن عادياء، والعطسة صحية، وفعل لا إرادي.

تقول الدارسات الطبية، إنّ حبسها يؤدي إلى قتل صاحبها، وفي الأثر النبوي: "العطاس من الرحمن، والتثاؤب من الشيطان"، لكن عطسة الموظف الروسي قتلت صاحبها اجتماعياً لأنه لم يحبسها، ولأن آثارها وقعت في المكان غير المناسب، فعاد إلى البيت ومات كمداً لشعوره بالذنب القاتل، فكانت عطسته تشبه الطلقة، هي قصة ساخرة، لكنها مأساوية.

والقصة الثانية هي قصة فيلم اسمه "معجزة الزنزانة رقم سبعة"، وهي من قصص المتهم البريء الشائعة في السينما، وقد مُثّلتْ أول مرة في كوريا، والمرة الثانية كانت في تركيا ونالت جوائز عالمية، وهي قصة رقيقة عن متهم بريء، يتهم بقتل طفلة، وتظهر براءته بعد محنة.

ملخص الواقعة التي دوّنها القاضي حسين حمادة، أن طفلة عمرها تسع سنوات تدّعي على شاب اسمه محمد بأنه خدعها واستدرجها إلى بيته، وواقعها أياماً، لكنها استطاعت مغافلته والهرب منه، يشكُّ القاضي بسنّها الحقيقي، فمنطقها أكبر من عمرها، وخلال التحقيق معها، يخطر له أن يسألها عن شعر عانته ما دامت قد زعمت أنه كان يتعرى لها، فتلعثمت، ثم زعمت أن شعر عانته حليق، وتحقق العدالة في هذا الاختبار يعادل النصف، فإما طرّة وإما نقش، وقد تصيب وقد تُخطئ، ثم استدعى القاضي المتهم الشاب، وهو مدرس ومعيد في كلية الآداب، ويعمل أيضاً منقذاً في مسبح، وكانت روايته للواقعة تدل على نبله وكرم أصله، وهي أنه فتح الباب ليجد طفلة تزعم أنها جائعة، فأمرها بالانتظار، وقصد المطبخ، وعاد بالطعام، فوجدها عارية على الأريكة فحمل ثيابها وطردها.

أمر القاضي، وبجانبه كاتب المحكمة والموظفين والموظفات المتهم فجأة أن يخلع بنطاله، في المكتب الحكومي، فبُهت المتهم، أمره القاضي مرة ثانية زاجراً متوعداً، وهذه الصفة شائعة في الموظفين السوريين المتنمرين كباراً وصغاراً، فما كان من المتهم الضحية المذعور إلا أن خلع سرواله، فانجلت الحقيقة وظهرت براءته، ويذكر القاضي مستطرفاً أنَّ شعر العانة كان أطول من شعر كاتب المحكمة ويذكر اسمه، وهو أيضاً وصف في غير محله، يجوز في قصة، لكنه لا يجوز في ذكر واقعة قضائية.

وأخلي سراحه، وأوقفت الطفلة وأمها، التي كانت تكيد للضحايا، فتبتزهم بتلك الطريقة.

ذكّرتني قصة البنطال القاتل بوقائع في الإخباريات الإسلامية، وحياء العرب، والحياء في الإسلام شعبة من الإيمان، أولها قصة آدم عليه السلام وأمنا حواء،" فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ"، ولم يكن غيرهما في الجنة.

تليها قصة موسى عليه السلام في الإسرائيليات، وهي أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا‏:‏ واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر‏.‏ فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمع موسى في أثره يقول‏:‏ ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى عليه السلام وقالوا‏:‏ والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا‏‏‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ واللّه إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربًا بالحجر‏.‏ وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه أشدَّ الناس حياء وتروى عنه أخبار كثيرة.
وقصة عن الإمام أحمد بن حنبل في محنته، أنه لما أُخذ ليُضربَ انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته، فحرك شفتيه، فدعا لله، فعاد سراويله كما كان. ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.

وقصة "أَبو القَاسم الطَّلْحِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ"، وكان إِماماً في الْحَديث والفقْه والتَّفسير واللّغة، حافظاً مُتقنا، تُوُفّي ليلة عيد الأضحى، وقدْ قارب الثمانين، ولما أراد الغاسل تنحية الخرقة عن فرجه ردها بيده. وغيرها كثير.

في قصة "الضحكات القاتلة"، وهو الاسم الذي اخترته للقصة بدلا من "ظاهرة كذب الأطفال"، والطفلة ضحية أمها الماكرة، نهاية مأساوية مثل نهاية موظف تشيخوف، يخبرنا الراوي أنَّ والدة المتهم البريء حضرت إلى مكتبه بعد ثلاثة أيام وبيدها نسخة من القرآن الكريم هدية، وقالت: إنه اليوم الثالث على وفاة ابنها لأنه بمجرد وصوله إلى البيت أصيب بجلطة قلبية توفي على إثرها.

كشف الراوي امرأ أدبيا وأخلاقيا سها عنه: لفت انتباهي كاتبي إلى أن نافذة مكتبي مفتوحة وهي تطل على مكتب عاملات نسخ القرارات وكنَّ يراقبن ما أفعل ويضحكن، فقلت لهنَّ وللمتهم (فيما يشبه الاعتذار): إن شعر عانته "كانت" سبباً في براءته.

وتظهر هذه الملاحظة أن القاضي مسرور بالنهاية وبالعدل وبذكائه.

يشير القاضي في بداية الكتاب الذي قرأته من صفحته في فيسبوك، عدم كفاية القضاة وعدم كفاءتهم أيضا، وانتشار الفساد بينهم. يذكر أبو هريرة رضي الله عنه، عدد الندوب في الحجر من ضربات موسى عليه السلام بالعصا، لكننا لا نعرف عدد الندوب التي تركها القاضي في قلب الشاب السبّاح الذي غرق من حيائه، وأظنُّ إنه استشهد من شدة الحياء، وكثرة الندوب، وأنه قُتل خطأ، قتلا غير مقصود، فالقاضي لم ينج من شدّة الموظفين السوريين وفسادهم بكشفه عورة المتهم أمام النساء، وأظنُّ أنَّ عليه الكفارة فإما صيام شهرين متتابعين وإما إطعام ستين مسكينا.

هناك عبرة أخرى أنَّ براءة البريء قد تظهر في ظلمات القضاء السوري الفاسد، وقد استشرى الفساد إلى القاضي بذلك الزجر القاسي، وعدم اتباع إجراءات تحفظ للمتهم البريء كرامته، وعبرة ثانية أنَّ ثمن البراءة هو الحياة. كأنه قال: إذا كانت ثمن إظهار براءتي هي إظهار عورتي، فالموت أكرم لي منها.

ندعو للمرحوم بالرحمة، وللقاضي وكاتب المحكمة والموظفات الضاحكات أيضا.

*أحمد عمر - من كتاب "زمان الوصل"
(359)    هل أعجبتك المقالة (344)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي