ظننا كل الظنِّ أن البشر تحضّروا، وجفوا أخلاق البادية الخشنة، وكفّوا عن الثأر والغزو، وأن الإنسانية تقدمت وارتقت على مدارج الاجتماع والعمران، وأن حلبات المصارعة الرومانية اندثرت وأمست ناقوسًا يدق في عالم النسيان.
ظهرت حلبات الرومان في القرن الثالث قبل الميلاد، في أثناء الحروب البونية بين روما وقرطاج، فصارت الحلبة مركز المدينة، ومعبدها، وبرزت لعبة دموية وشعبية وملكية عشقها الرومان القدماء، وهاموا بها، فكانوا يعرّون الأسرى ثم يسلحونهم ببعض العصي، ويزجونهم في محاربة مجموعة من الجنود الرومان المدججين بأفضل الأسلحة، في الحلبة التي تتحول إلى ساحة إعدام مثيرة، ثم إن الرومان ابتدعوا أساليب دموية جديدة أضافوها إلى اللعبة، فأخذوا يجبرون الأسرى على مقاتلة بعضهم البعض في منازعات حياة أو موت، وكان الرومان الوثنيون يقذفون بأسرى الحرب وأسرى العقيدة من أتباع المسيح عليه السلام إلى الحيوانات المفترسة، ويبتهجون ويصفقون وهم يرون المفترسات تأكلهم، فانتشرت المبارزات الوحشية، وصارت لعبة شعبية لدى الجماهير الرومانية القديمة، فأصبح لها قوانينها وطقوسها، ولها مقاتلوها المحترفون، الذين يطلق عليهم "Gladiator"، واللفظ مأخوذ من لفظ عربي هو الجلد والمجالدة، أما المجادلة، فهي مبارزة بسيف الحجة ودروع العقل.
وكان يجري تدريب المجالدين في مدارس خاصة من أجل إعدادهم للقتال داخل حلبات الموت الرومانية "الكولوسيوم"، التي اقترنت بمسرح "فسبازيان" طوال تسعة عشر قرنًا، ويعود أصلها إلى تمثال إله الشمس الإغريقي أبوللو. أراد نيرون الفخور بعظمة روما، أن يتمثل بالإله أبوللو حين أقام لنفسه تمثالًا أطلق عليه الرومان اسم "الكولوسيوم" على مدخل قصره الأعجوبة دوموس أوريا، الذي يعني الدار المذهبة، ومنه أخذت الحلبة اسمها.
شاهدنا أفلامًا روائية كثيرة أشهرها فيلم "المصارع"، قام ببطولته راسل كرو، وأخرجه ريدلي سكوت، وفيه يضطر الإمبراطور كومودوس إلى مصارعة ماكسيموس للحفاظ على العرش، فيعانقه ويطعنه في ظهره، فيما نسميه قبلة الثعبان حتى يضمن الفوز، لكن ماكسيموس يهزمه وهو جريح ثم يموت.
بعد هذه الديباجة نأتي بكم إلى الحلبة المعاصرة:
لم يكفّ الرومان عن تلك اللعبة الشعبية التي ما زالت تسري منهم مجرى الدم، وهي أشد من جرائم الحلبات القديمة، لكنها مقنعة في أيامنا، وشاهدنا أكبر حلبة مصارعة رومانية في العراق وسورية ومصر وليبيا واليمن، وبدأ المصارع الروماني، وأمريكا هي سليلة الرومان ووريثة الحضارة الرومانية دينّا ودنيا، بتجريد العراق من أسلحته بالحيلة أو بالتهديد حتى أذعن صدام وانطلت عليه الحيلة وصار أعزل، فبدأ الرومان المعاصرون باجتياح بغداد وارتكبوا فيها الفظائع، وفظائع سورية أكبر، فقد استمتع الجمهور الروماني الذي تابع دماء ضحايا الحلبة عبر شاشات التلفزيون، وتدمير حضارة الخلافة الإسلامية العريقة، وحضارة بابل القديمة، وأردفها بالحلقة الثانية، فشاهد مستمتعًا تدمير الحضارة في سورية، واكتفى المشاهد الروماني الذي خلّى بين المصارع المدجج بالسلاح والشعب الأعزل، ووصف العرض بالحرب الأهلية، فهو لا يتدخل في الشؤون الداخلية، والحلقة الثالثة كانت مشهد صراع المجالدين الفراعنة الذين أسرفوا في قتل الأطفال والنساء والشيوخ في ميدان رابعة المصري، حرقًا وجرفًا بالجرافات، وكان الرومان المعاصرون حريصين على ما حرص عليهم أجدادهم، فطالبوا بتجريد الأسد من السلاح الكيماوي، وصدام من صواريخ العباس، ملتزمين بالشروط القديمة التي رسخت سلاحا فاتكا ضد سلاح لا يغني، لضمان الفوز. ورأينا وحوشًا بشرية يفتكون برعاياهم، ويجبرونهم على تغيير عقيدتهم، وهو ما جرى لأتباع المسيح عليه السلام.
على هامش المتن الدموي نرى عادة في المباريات باعة جوالين يبيعون الموالح والمرطبات، ومحللين سياسيين يبشرون بانتصار الأسرى، ومنظمات حقوق الإنسان مثل امنستي تندد بما يحصل، وليس لها سوى التقارير والذكريات، وجدير بالذكر أن أوربا المعاصرة أصدرت عملة عليها صورة "الكولسيوم" التي أبيد فيها أجيال من المؤمنين البواسل الشجعان بدعوة المسيح عليه السلام، شهداء، وهذا يشبه أن تصدر دولة عربية صورة لمكة المكرمة قبل البعثة النبوية بأصنامها وأوثانها، تذكاراً على عملة نقدية. ويزعمون أن الإنسانية تطورت، وتقدمت فرأينا مذابح بالقنابل النووية في اليابان، وكان الرومان الأوائل يقتلون أسراهم فرادى، أما الرومان الأواخر فيسلمون الشعوب لزعمائهم الذين ولولهم على بلدانهم.
نجا بعض السوريين من الحلبة الرومانية السورية، فحوصروا في إدلب، والعرض الدامي مستمر منذ عشرة سنوات وبنجاح متواصل، والرومان يطمعون في تحويل إدلب إلى حلبة يحلبون فيها الدماء، وهم يستمتعون بالوحوش المفترسة: الأسد السوري، والدب الروسي، والتنين الفارسي، والفيل الأمريكي، وعشرات الجرذان الصغيرة من حولهم، تفتك بهم، من أجل ترفيه الشعب الأبيض الأول، الذي يفزع دولة وشعبًا لنجدة هرة في بئر، الهرة هي هرتهم فهم لا يرحمون سوى حيواناتهم أيضا.
أحيانا يتفضل الرومان المعاصرون على بعض "المترومين" السوريين بجائزة أدبية أو سينمائية، وقد يحاكمون جنرالا سوريا لجأ إلى بلادهم، وقد يجرون مقابلة مع القيصر السوري فتصخب مواقع التواصل وتصفق للعدل وتستبشر، وتنسى تلك المواقع وأولئك النشاطون أنَّ القيصر الروماني، وهو روماني وليس سوريا "متروما"، مات بست وثلاثين طعنة في الظهر، وأنَّ ميقات صور القيصر الكثيرة لم يحن قطافها، فالصور الحيّة المبثوثة من الحلبة السورية على الهواء أجمل.
*أحمد عمر - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية