نصبت صورة مقطوفة من فيلم أمريكي شهير اسمه "حرارة" على صفحتي مرة، وهو فيلم حسن التشويق، يمكن أن يشاهد مرات، ويصلح مثالًا لدراسة العقل الأمريكي، وفيه مشهد حواري مازال يُدرّس في معاهد السينما، وقلت في مقال قديم إن المقطع الشهير، الذي مُدح كثيرًا ليس سينمائيًا، بل مسرحي، أمّا الصورة التي نشرتها فكانت لروبرت دينيرو، وهو يقصد رفيقًا له في عصابته خانه، بنيّة قتله، تحصّن على ذروة جبل.
السينما الأمريكية هي سينما انتقام وغرام.
وفي الصورة يظهر دينيرو ووراءه المدينة بأضوائها التي تشبه مصابيح السماء، وكأنه سيّد المدينة في الليل البهيم الحيوان، فتلك لقطة رائعة التقطها فنان. ولم أشرح جمال الصورة لأصدقائي فلم أحصد منها غلة اللايكات المطلوبة، فعدتُ إلى البيت ببضاعتي، لأن أصدقاء فيسبوك يفضلون النادرة السريعة، وليس عندهم وقت لفهم الإشارات الصوفية أو المجازات الأدبية، وأنا لا أفقه شيئًا في علم الإخراج، لكني أعرف مثل عبد الحليم حافظ أن البحر عميق جدًا، وأنَّ الإخراج يتطلب ثقافة كبيرة ومعرفة بأمكنة التصوير وهيئات الممثلين ونفوسهم وعناوينهم، وفقهًا في التاريخ والمجتمع، وقد عرفها حاتم علي شابًا، وأثنى عليه مخرجون، وأظهروا غيرة منه على صنعته التي برع فيها، وأتذكر مشاهد تمنيت لو أنه جوّدها تجويدًا، وحبّرها تحبيرًا، فهو يرتّل الصور أحيانًا، لكنه قليل التجويد، وسوى ذلك هو مخرج حذر، يسير على السكة، وكان بمقدوره أن يحلّق، لكنه قلّما فعل.
وأذكر أني تحسرت على مشاهد في مسلسل صلاح الدين، تقول الروايات التاريخية إنَّ نور الدين زنكي حلق شعور قتلاه من الفرنجة الصليبين، وأرسلها إلى شيركوه في حصن بلبيس، وعندما رأى الغزاة الرايات والشعور الشقراء قذف الله في قلوب الغزاة الرعب وانكسروا. وفي اكتفاء المخرج بالرايات تعففٌ ورقّة زائدين، وسبب اكتفاء المخرج بالرايات هو خشيته أن يُتّهَم التاريخ الإسلامي بالفظاعات والقسوة، ونحن عادة نقتدي بالخواجات، مع أن الخواجات الفرنسيس لم ينكروا قطع الرؤوس في الثورة الفرنسية قريبة العهد، فهي أقرب من زمن صلاح الدين، بل إنهم كانوا يعبثون برؤوس قادة الثورة في فيلم الثورة الفرنسية الذي وثقّوا الثورة به، وليس برؤوسنا التي حفظوها بالأمس القريب في المتاحف مثل التحف، فلمَ كل هذا الترقق والتجمّل.
ومن المشاهد التي أتذكرها مشهد الخليفة العاضد الفاطمي آخر خلفاء الفاطميين وهو يعاهد الفرنجة على محاربة جيوش صلاح الدين، في أول أمره بسعاية وزير شاور، فعقد حلفًا معهم، فحالفهم وصافحوه وكان يلبس قفازًا، فسألوه أن يخلع قفازه، خوفًا من أن يكون ناويًا الغدر حتى أنَّ الخادم تعجب، ولم ينسَ المخرج الخادم، لكني تمنيت لو أنَّ المصور اجتهد بتقريب الكاميرا من وجه الخادم تقريبًا يحاصر به المشاهد حتى يدرك وقاحة الفرنجة وعظمة العاضد وفاءً للسرد التاريخي.
ولن نتوقف عند مسلسل الزير الذي سألت فيه نفسي عندما قُتل الزير: كيف استطاعت اليمامة، الصبية نحيلة العود أن تحمل جثة عمها الزير وتضعها على النعش، ثم تدفعها في الماء، لكنها سيرة شعبية، فقد كان الزير في السيرة يركب الأسود كأنها حمير، ولم يكن الزير سالم يشبه الزير الذي قرأت سيرته. ووجدت نفسي مأسورًا بمشاهد صقر قريش في الأندلس عاصمة الدنيا في زمانها، وسخر بشار البهرزي من بني أمية، وقال: لولا الشام لم تكن بني أمية، فهاهي ذي الأندلس التي جدد فيها صقر قريش مجد بني أمية، أمّا مكة، فليست مثل مكة التي تخيلتها، فقد كان حاتم علي مخرجًا محافظًا، فالكاميرا حذرة، بل إنَّ فيلم فجر الإسلام كان أجود بأمكنةً التصوير مع أنه يسبقه بأكثر من ثلاثة عقود.
شاهدت حلقات من مسلسل عمر، الذي لا أعرف سبب اكتفاء صانعي المسلسل باسمه وليس بلقبه، الفاروق مثلًا، أو عمر بن الخطاب، فوجدت حاتم علي ما يزال يمشي على آثار المخرجين الذين سبقوه قصصا، فتصوير الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز، وحتى يستدرك الوقائع التاريخية، ويفيها حقها من السرد، كان يدفع بالخبر على لسان أحد الصحابة لينوب عن نقصان الخبر وغيابه، ويسدَّ الثغرات السردية، فيخرج الصحابي ويخبر أنَّ النبي قال كذا، أو أنَّ النبي يأمر بكذا، وهو أمر لو رآه جاهل بالسيرة النبوية، أو مشاهد أجنبي، لتعثّر في الفهم، ولم يكن النبي يتحجب مثل الملوك، وكان هناك حلُّ سهلُ وكريمٌ، وهو حلّ الرواية، وهو أن يسند القول إلى راوٍ ذا صوتٍ جميل، قويّ، فيروي ما يحدث من غير الإخبار بلسان الصحابة.
يمكن أن اتذكر الفيلم الشهير المواطن كين، وهو من أفضل عشرة أفلام في التاريخ، وفيلم شفيقة ومتولي المصري، وأن أقول أنّ أسلوب الراوية أسلوب ملحمي.
*أحمد عمر - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية