أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سرُّ المأمونية المفقود... أحمد عمر*

من حلب - أرشيف

للعرب كتب في كل شيء، هم أمة أميّة لكنهم تحولوا بالقرآن إلى أمة نص. "لوفر" العرب نصوص وكتب، و"هوليود" العرب أشعارٌ وكتبٌ ومنصفات وتفاسير، وهم سابقون في عموم التآليف سوى الفلسفة، سبقوا إلى الفلك والنحو والجغرافيا والبلدان والحساب والخوارزميات والموسوعات، ولهم كتب في النساء والشهوة، لكني لم أجد لهم كتبا في الطبخ! وهذا يحتاج إلى تفسير.

المأمونية فطور شامي، ينسب إلى الخليفة المأمون، شاع في حلب أكثر من دمشق، وهذا يحتاج إلى تفسير، وجاء في سبب تسميتها ما ذكره العلامة خير الدين الأسدي في موسوعة حلب المقارنة: إنَّ المأمونية حلوى من سميد وسمن وسكر، ويعتقد العارفون وأولو العلم القائمون بالقسط، أنَّ نسبتها للخليفة العباسي تؤول واختلاق، فقد أبدعها حلبي من سوق السقطية، واسم صانعها مأمون وإليه نسبت.

طعام سهل التحضير، سميد بالسمن العاشق، ثم يغرق بالقطر الحلو الثخين، طيب بالقرفة، وأطيب إذا نصب في ساحته أهرام من القشطة الشريفة العذراء، فحَسُن صباح المبشرين.

استطعت استئناس ذائقتي، فكنت أشربها مع اللبن الرائب الذي يشنُّ بالماء مع معركة صغيرة يدوخ فيه اللبن وهو يخضُّ خضاً، أو مع الشاي المرّ، ويؤكل في حلب مع الجبن أحيانا، وقد اجتهدت كثيرا في صناعتها عليّ أبلغ الأسباب، لكني مضيت حقبا ولم أبلغ رتبة صناعتها حسب الأصول في حلب التي تبرع في صناعتها، فالمأمونية الحلبية ثخينة، كدراء، تكاد تسيل من الشوق أو من الحر كأنها بقايا حمم بركان متقاعد عن العمل.
سألت ربي أن يهديني كما هدى ذا القرنين الذي بنى سد يأجوج ومأجوج إلى سرِّ صناعتها لكني أخفقت، فلصناعتها حسب الأصول سرٌّ لا يطال، ولغز دونه أهوال.

اهتديت قبل سنوات إلى بائع نمورة حمصي، والنمورة طعام النمور، ونهى النبي عن رِكاب النمور، أي اتخاذ جلودها لباسا. واسم النمورة في مصر ألطف وأرق وهو بسبوسة، ولها أسماء أخرى كثيرة مثل الهريسة، فلم أجد أطيب من نمورة الحمصي، وكان صاحبها من حقبة مضت، ولا يطهو سوى خمس وعشرين قصعة نحاسية، فيبيعها في ساعات الصباح، ويعود إلى بيته، كان يطبخها سبائك من الذهب تؤكل، يجنُّ النحل فلا يجد طريقا إليها لمجاورتها فرع الأمن الجنائي.

وكنت لفرط شغفي بها اشتري للجيران، ولركاب موقف الباص، وأسأل نفسي: إذا كان المأمون الأموي قد ترك لنا دار الحكمة فأنّ المأمون الحلبي خلف لنا مجدا عظيما ووجبة رائعة.

وصاحبت صاحب النمورة الحمصي، فكلانا يحاول ملكا، ومُلكنا الذي نبتغيه ليس عرشا، كل ما نبتغيه هو العيش بكرامة، فكان يندب الزمان، ويتذكر أيام الكرم والفيض والجود، ويقسم أنه كان يصنع مما فَضُلَ من دسم النمورة في الستينيات والسبعينيات فطائر الشعيبيات، وكنت أشمُّ في حنينه رائحة السياسة والغضب والثورة، وكان يعمل في المحل مع ابنه الذي لم يكن يتكلم مع أبيه لشدة الدسم أو من حرقة النار، أما على إدارة نيران الفرن فكان فرّان نحيل، يوشك على السقوط من الهزال وهو يعاين الحلوى المخبوزة، يجسُّ سبيكة ويقلبها ثم يعيدها إلى النار حتى تبلغ الأسباب.

ثم أني قررت أن أعبث بالنار التي عدَّ عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي خمسا وثلاثين نوعا من النيران منها: نَار الله، ونَار إِبْرَاهِيم ونَار مُوسَى ونَار القربان ونَار الحرتين، ونَار الشّجر، ونَار الْقرى، نَار الْحَرْب ونَار الْحلف ونَار الْمُسَافِر، ونَار الْمَجُوس ونَار الاصطلاح ونَار الْإِنْذَار و نَار الاستكثار، ونَار الاستمطار، ونَار التهويل، ونَار الصَّيْد، ونَار الزحفتين، ونَار الغضى، ونَار الحلفاء، ونَار الحباحب، ونَار الْبَرْق ونَار الْمعدة ونَار الْحمى ونَار الشوق ونَار الشَّرّ ونَار الْحَيَاة ونَار الشَّبَاب ونَار الشَّرَاب ونَار الكي ونَار الذبالة ثم أني طهوتها عشرات المرات مرةً على نار الجوي، ثم على نار الهوى، ثم على نيران الحب، لكني مأمونيتي كانت تتصلب بعد نصف ساعة في الهواء الأسير.

اشتهرت على موقف الباص، وصار الحيُّ كله من معارفي وصارت كنيتي أبو النمورة، كنت أحتار كيف أكل نمورة الحمصي، فهي طيبة نمورة، وطيبة مأمونية، وكنت بالمأمونية أولى، فكنت أعود واستخرج من قلب النمورة المأمونية الصلبة وأشرب معها اللبن، أو الشاي المرّ، واتخذ قشر النمورة مثل رقائق الخبز، فأستطيع أن أخرج في باقعة البرد، بثياب البحر وأن أهتف مثل طرزان من شدة السعرات والسعير في دمي: "الشعب يريد إسقاط النظام".

*من كتاب "زمان الوصل"
(260)    هل أعجبتك المقالة (260)

Ali

2020-09-15

عرفت صاحب النمورة. فعلا أطيب نمورة بالعالم. ما كنت اشتري غير من عندو..


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي