أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

البحث عن النهضة المفقودة لماذا الآن؟ (1)... فؤاد حميرة*

صورة تعبيرية - البتراء - جيتي

كنت قد قرأت مصادفة منشورا كتبه الباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري على صفحته في "فيسبوك" تحدث فيه عن أسباب فشل النهضة العربية في العصر الحديث وقد قال ما حرفيته: (فشلت مشاريع النهضة العربية في العصر الحديث لأنه مع الأسف لازال البعض يرى أن جوهر المشروع النهضوي العربي هو التخلي عن هويتنا واللحاق بالغرب)، وكنت قد عزمت على الرد على منشور الدكتور المسيري وفكرته الساذجة جدا عن النهضة وكنت قد نويت فعلا أن أعبر له عن استغرابي من خروج كل ذلك التبسيط والتهميش من مفكر في قامته، ولكني تراجعت وقلت أنه ينبغي أولا الاطلاع على مفهوم النهضة ومن ثم يكون الرد محكما فوقعت بالمصادفة أيضا على كتاب للباحث "عزمي بشارة" يدعو فيه إلى نهضة عربية تقوم على (القومية الديمقراطية) فتوضح لي أن مفهوم النهضة أصلا غير متفق عليه بين الباحثين ولا حتى الطريق إلى النهضة المنشودة، وكنت كلما غرقت في القراءات حول الموضوع غرقت في مفاهيم متباينة ومختلفة جميعها تتحدث عن النهضة وأهميتها وتوصيفها وكلٌّ يعطي الوصفة التي يراها سحرية للخروج من التخلف الذي تعانيه مجتمعاتنا.

ومفهوم التخلف بدوره قادني إلى الخوض في معنى التخلف وخصائصه وهل نحن متخلفون فعلا؟ وبالقياس مع من نحن متخلفون؟ هل اعتماد الغرب وحضارته كمقياس للرقي هو ما يجعلنا متخلفين؟ هل علينا إيجاد وسائل قياس أخرى؟ هل علينا البحث في مفهوم التخلف قبل البحث عن النهضة؟ هل الحل في معرفة التخلف أم في إدراك نقطة البداية للنهضة أم في كليهما معا؟ هل فشلت النهضة المعاصرة بسبب ابتعادنا عن التراث كما يقول المسيري أم بسبب غرقنا في هذا التراث حتى الأذنين؟ أم سلك طريق (القومية الديمقراطية) لنصل إلى باب مكتوب عليه (هنا تسكن النهضة العربية الحديثة)؟

من هذه التساؤلات بدأت الفكرة حول كتابة موضوعات عن النهضة المفقودة تتسع مثل كرة الثلج، فكان لا بد والحالة هذه من الاستفاضة في الاطلاع على مراجع أكثر وقراءة المشاريع النهضوية ودراسة أهم الشخصيات التي حملت فكرة النهضة العربية وكذلك الحديث عن الأسباب التي دعت لظهور فكرة النهضة أصلا ودراسة الظروف والمناخات التي ولدت وترعرعت فيها فكرة النهضة وخصائصها وأسباب نكوصها على رأي جورج طرابيشي (من النهضة إلى الردة) وشيئا فشيئا بدأت تتكشف أمامي حقيقة أظنها غابت عن كثيرين من ألوية النهضة العربية قديمها وحديثها وبمختلف تياراتها ذلك أن كل قوم يرى في ورقته التي يقدمها المشروع النهضوي الوحيد القادر على إخراج العرب من أزمتهم، فهناك المشروع الإسلامي بمختلف تياراته وتناقضاته وعداواته البينية أحيانا والذي يرى أن الإسلام هو الحل ولكن لكل مفهومه الخاص عن ذلك الحل الكامن في الدين، في حين يرى فريق آخر أن الحل في القومية العربية والوحدة وفريق يراها في الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، ألم تلاحظوا معي أن أحدا لم يطرح فكرته حبا بالفكرة وإنما جعلها مطية للخروج من أزمة؟ بمعنى أن أصحاب التيار الليبرالي والديمقراطي لم يتبنوا الديمقراطية على اعتبارها حق من حقوق الإنسان وإنما نظّروا لها بما أنها مدخل للنهضة وكذلك الحال مع أصحاب التيار الإسلامي، فلم يروا في الإسلام دينا يدعو للعدالة والمساواة والإخاء وإنما بابا ندخل عبره إلى النهضة، كل الأفكار لم تكن إلا مطايا في طريق طويلة وشاقة للبحث عن النهضة المفقودة.

تعريف النهضة:
لم تختلف قواميس اللغة العربية قديمها وحديثها في تقديمها لتعرف النهضة مع بعض الإضافات هنا وهناك والتي لا تؤذي المعنى أو تناقضه عند المصدر الآخر، فالقاموس المحيط يعرف النهضة بأنها من الفعل الثلاثي: نهض أُنهضَ، ومصدر نهض نهوض.
نهض الولد: قام في نشاط وهمة
نهض من مكانه: ارتفع عنه
نهض للمعركة: قام إليها مستعدا
نهض للسفر: هب
أما لسان العرب فيقول: نهض نهضا ونهوضا: قام
نهض النبات: استوى
نهض الطائر: بسط جناحيه للطيران.

ولعل أقرب تعريف لمفهوم النهضة المتعارف عليه حاليا يأتي من المعجم الوسيط إذا يعرف النهضة على الشكل التالي: النهوض هو البراح من الموضع والقيام عنه.

البراح عنه بمعنى مغادرته وبالتالي فإن المقصود بالنهضة هنا مغادرة مكان التخلف عن الآخرين، مبارحة الوضع الذي يعيشه العرب إلى موضع أفضل وهذا التعريف هو الأقرب للمفاهيم السياسية (المفهوم الاصطلاحي) رغم عدم اختلافه كثيرا عن تعريف النهضة في باقي المعاجم والقواميس اللغوية الأخرى.

وفي العودة إلى العنوان (لماذا الحديث عن النهضة)؟ يبدو أن قرنين من النضال والكفاح والصراعات الفكرية والسياسية وحتى العسكرية لم تفلح في نقل العرب من موضع إلى موضع، رغم كل الأفكار التي تم طرحها وبالرغم من الدماء التي سالت في سبيل مبارحة التخلف إلى مواضع أكثر رحابة وتطورا، إلا أن العرب لم يبرحوا خيمتهم ولا يبدو أنهم بسطوا أجنحتهم للطيران من هنا يحتل الحديث عن أسباب هذا الكسل العربي أو العجز العربي عن الوقوف (النهوض) أهميته الخاصة فهل هذا التخلف حتمي؟ هل هو مفروض علينا من الخارج أم أن عوامل داخلية لها الأثر الأكبر في أسباب عدم براحنا؟ ياسين الحافظ يضرب مثلا فيقول: "من نافل القول إن العناصر المكونة لدولة إسرائيل قد تكونت أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين، لكن هذا لا يعني = لا يعادل أن الاستعمار البريطاني هو الذي أقام إسرائيل".

ويضيف الحافظ "بيد أن الإشكالية في الوعي العربي محلولة على نحو آخر، على هذا النحو: الاستعمار هو الذي أقام إسرائيل، كما أنها في الوعي الفلسطيني محلولة على هذا النحو: الاستعمار مضافا إليه التخاذل العربي تارة وخيانة العرب تارة أخرى وفي الوعيين بقيت عمارة المجتمع العربي وإيديولوجيته وقيمه بمنجاة من التشكيك).

لا يجب أن يبقى مجتمعنا بكل ما يحمل من قيم وأهداف وآراء بعيدا عن التقييم والتشكيك ودائما المسؤول هو الآخر، لذلك فإن إعادة قراءة تاريخ النهضة ببواعثها وخصائها وبداياتها الحقيقية ورجالاتها تبدو أمرا ملحّا وغاية في الضرورة إذا ما أردنا فعلا تلمس بدايات الطريق التي يجب أن نسلكها وتحفيز القدمين على النهوض ومبارحة المكان.

الخلاف واضح وجلي بين المؤرخين والباحثين حول تحديد نقطة البداية لحركة النهضة العربية فقسم يرده إلى منتصف القرن التاسع عشر مع وصول قوات محمد علي باشا بقيادة ابنه إبراهيم باشا إلى بلاد الشام في العام 1832 وقيامه بإصلاحات واسعة في مجالات التعليم والتنظيم والزراعة والصناعة والقضاء، فيما يوغل فريق آخر في التاريخ أكثر ليصل إلى الحملة الفرنسية بقيادة  نابليون بونابرت إلى مصر عام 1798 والتي يراها البعض النافذة الأولى التي يطل منها العرب على الحضارة بعد غياب وانقطاع داما لقرون عديدة.

ويردها جمهور آخر إلى بدايات التدخل الأوربي في الشأن العثماني ومحاولات جر الدولة العثمانية لتصبح مربوطة بحبل من مسد إلى الاقتصاد الأوروبي وتابعة له عبر تقديم المادة الأولية واستهلاك المواد المصنعة.

أما أنا شخصيا وربما يشاركني البعض في ذلك ويرفضني البعض الآخر (وهذا حق) فإني أرى أن أول نهضة عربية عرفها العرب بمفهومهم العرب الراهن كانت مع مجيء الرسالة المحمدية وهبوط الوحي على النبي محمد في شبه الجزيرة العربية قبل نحو 1400 سنة ومن هناك سنبدأ موضوعنا ولكن قبل ذلك لا بد من توصيف المكان الذي ينبغي علينا مبارحته والطيران منه، وهل يستوجب الأمر مبارحة؟ هل نحن متخلفون فعلا ووفق أية مقاييس.

كاتب سوري - من كتاب زمان الوصل*
(295)    هل أعجبتك المقالة (282)

فؤاد حميرة

2020-08-18

نعم ...نحن نعيش قبل قرنين والدليل اننا نطرح ذات الأسئلة.


أحمد عز

2020-08-18

لطالما أنك بارع في صياغة المقال واختيار الألفاظ المنمقة التي تناسب موضوعك، فلماذا لم تبرع أيضاً في ذكر "النبي الكريم" محمد صلى الله عليه وسلم. سيما وأنك رددت الفضل إلى رسالته الخالدة في نهضة العرب. يشعر قارئ المقال أن كاتبه مستشرق أو مستعرب أو غير مسلم ولا أظنك البتة كذلك يا أستاذ فؤاد. لك شكري وامتناني لتقبل هذا النقد..


فؤاد حميرة

2020-08-18

الصديق أحمد عز ....شكرا لاهتمامك قبل كل شيء هذا المقال جزء من سلسلة مقالات ولقد أنهيت المقال هنا عند دور الإيلام في تحقيق أول نهضة عربية ولسوف نتطرق للموضوع بالتفصيل مستقبلا وأنا هنا فقط أنوه للموضوع القادم مودتي.


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي