أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ماسح الأحذية وتمثال السيد الرئيس.. مصطفى تاج الدين الموسى

معرة النعمان - ناشطون

منذ الصباح الباكر وهو يتجول في ممرات هذه الحديقة والشوارع القريبة منها، ينظر في وجوه الناس.. يتحدث مع أحدهم مرّة، ومرات يتأمل أحذيتهم لعل آخر يناديه، لكن دونما جدوى.

صار الوقت ظهراً، وحرارة شمس آب تكاد تفتك بروحه ومزاجه أيضاً، تعب من المشي بصندوقه الخشبي المليء بالعلب البلاستيكية الصغيرة وفرشاة كبيرة.

زفر بتعب وشتم في سره حظه هذا اليوم، حتى هذه اللحظة لم يتعثر الفتى مهند ماسح الأحذية، بحذاءٍ يناديه من هنا أو هناك يوفر له على الأقل ثمن علبة سجائر.

لساعات وكما هي عادته اليومية تأمل عشرات الأحذية التي مرّتْ به أو مرّ بها، على عكس البشر، مهند لا يتأمل الوجوه في الحديقة والشوارع، إنما يتأمل الأحذية، استغرب كثيراً.. أغلب أحذية هذا اليوم تحتاج لتلميع، لماذا لا أحد يستعين به، شتم في سره البشر وشعر بأنهم لا يستحقون أحذيتهم، تعبه أخذه إلى نافورة المياه في منتصف هذه الحديقة، جلس جانبها بعد أن يئس من استغاثة تصله من أيّ حذاء من أيّ جهة، ثمّ وضع على يمينه صندوقه الخشبي ليتكئ عليه فوق العشب وهو يزفر بحنق.

بضجر راح يتأمل الأشياء حوله، ابتسم بملل للإوزات وهي تسبح بهدوء فوق الماء، لوح بكفه أمام وجهه ليطرد ذبابة حطتْ على خده، تثاءب.. اتسعتْ ابتسامته وهو يتأمل ذلك التمثال الكبير للسيد الرئيس على الجهة الأخرى من نافورة الحديقة، مع أن هذا التمثال موجود هنا منذ سنوات هي أكثر من سنوات عمره، ومع أنه يأتي إلى هذه الحديقة منذ زمن طويل، لكن مهند شعر بأنه يشاهد هذا التمثال للمرّة الأولى، وكأنه لم يكن موجوداً في السابق رغم حجمه الضخم، خيّل له أن التمثال يناديه، أراد أن ينقذ روحه من ضجر هذا اليوم الحار، نهض ليعلق صندوقه الخشبي في رقبته وأسرع إلى التمثال مبتسماً.

عندما وصل إليه جثا أمامه، أخرج فرشاته وإحدى العلب البلاستيكية وبدأ بتلميع الحذاء الإسمنتي الغليظ لتمثال السيد الرئيس قائد كلّ شيء في هذه البلاد، وهو يدندن بلحن أغنية شعبية يسمعها دائماً من آلة تسجيل فوق عربة بائع الذرة أمام باب الحديقة.

عندما انتهى من الفردة الأولى انتقل إلى الفردة الثانية وشرع بتلميعها، فجأة صاروا حوله، شهق.. وكأن الأرض انشقتْ ليخرجوا من باطنها، ارتبك كثيراً.. استطاع أن يعرف بعضهم، كان قد شاهدهم في أوقات مختلفة في التلفاز.

تحلقوا حوله وهو يصفقون له بحرارة ويهتفون بهتافات تمجد الرئيس وإنجازاته ومعاركه ضد الأعداء.

من بينهم وقف مهند ماسح الأحذية مذهولاً، وهو يتأمل بخوف كبار شخصيات الدولة عن حوله، صافحوه بحرارة وعانقوه بعنفوان، وذلك المذيع من قناة البرنامج العام على بعد بضعة أمتار، يتحدث بحماس على المكريفون وبجانبه رجل على كتفه آلة تصوير.

أكثر أولئك الكبار بدانة اقترب منه، وهزّه من كتفه بفخر، شعر مهند أن كتفه سينخلع من مكانه، اقترب رجلٌ يحمل بين يديه علبة مخملية وفتحها عندما صار بين البدين ومهند، ليلتقط من داخلها البدين وساماً مصنوعاً من الحديد، ثمّ انحنى على صدر مهند ليعلقه عليه، بينما صدى التصفيق والهتاف وصراخ المذيع يرتفع في أرجاء الحديقة.

بعد أن تم تعليق الوسام، تحدث هذا البدين باقتضاب لدقيقة أمام آلة التصوير، ثمّ خرج الجميع من الحديقة، وكأنهم كانوا في مهمة عاجلة.

ظلّ مهند وحيداً كما كان قبل دقائق بجانب التمثال، خلع الوسام عن قميصه الرث وتأمله مطولاً وهو يمط شفتيه مستغرباً شكل قطعة الحديد هذه.

سرعان ما ابتسم وقد لمعتْ في ذهنه فكرة، علق على عجل صندوقه الخشبي إلى رقبته، وهرول مسرعاً إلى سوق الخردة القريب، هناك.. وبدون مفاوضات مع ذلك العجوز مالك محل الخردة.. مهند باعه الوسام، ثمّ رجع إلى الحديقة وسعادته تكاد تجعله يطير، ثمن الوسام كان يساوي تقريباً تلميع ثلاثين حذاءً...

(193)    هل أعجبتك المقالة (180)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي