أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الحياة جميلة.. مصطفى تاج الدين الموسى

كان جسدي مرمياً بشكلٍ فوضوي على الرصيف، عندما اقترب مني إله المنتحرين على هيئة عتمة داكنة، جثا جانبي وتأمل جراحي.. سرعان ما ابتسم وهتف بي ساخراً:
ـــ ما فعلته ليس انتحاراً.. إنه مجرد فكاهة غليظة يا أحمق..
قهقه كمخمور ثمَّ اختفى راجعاً إلى عالمه دون أن يصطحبني معه.
اقترب مني مسرعاً شاب كان قد شاهدني أرمي بنفسي من نافذة غرفتي في الطابق الأول ناوياً الموت انتحاراً.

حملني وأسرع إلى سيارة قريبة وهو يصرخ بي:
ـــ لماذا فعلت هذا يا أخي.. الحياة جميلة.. الحياة جميلة.. الحياة جميلة..
في السيارة، وطوال الطريق إلى المشفى وهو يردد أمامي:
ـــ الحياة جميلة.. الحياة جميلة.. الحياة جميلة..
على سرير في المشفى عالج الطبيب مع الممرضة جراحي، بين الإبر المؤلمة وابتلاع الحبوب وقطرات السيروم، كان هذا الأحمق لا يزال يردد كببغاء:
ـــ الحياة جميلة.. الحياة جميلة.. الحياة جميلة..
تمنيتُ بحنق لو أن هذا الجدار ينشق ليطلع منه صائد طيور ويطلق النار على هذا الببغاء لأرتاح منه.

قال الطبيب:
ـــ جراحك ليست خطيرة.. تستطيع أن تغادر المشفى في الصباح.
خرج الطبيب والممرضة، هذا الببغاء أصر على البقاء جانبي حتى الصباح.. يا إلهي، سأظل جانب أسطوانة (الحياة جميلة) حتى الصباح!.. تباً..
مرَّ الليل ببطء، تعبتْ روحي وهذا الساذج لم يتعب من ترديده لي: الحياة جميلة.. الحياة جميلة..
ـــ ما هو مشروبك المفضل ؟..
ـــ شاي..
اتصلتُ بعامل البوفيه:
ـــ إذا سمحت.. أريد فنجان قهوة لي.. وكأس شاي لــ الحياة جميلة..
لا أظن أن هنالك تعذيبأ للروح أبشع من أن تمضي ليلك بجانب الحياة جميلة.
قبل أن تشرق الشمس، ذهب هذا الأبله واستلقى على تلك الأريكة لينام قليلاً كما نوى.

عندما سمعتُ صوت شخيره تنفستُ الصعداء.. لكن، فجأةً.. الطاولة، الكرسي، السرير، الساعة على الجدار، عامود السيروم.. كلها صارتْ تردد مع بعضها بصدى داخل أذنيّ (الحياة جميلة.. الحياة جميلة.. الحياة جميلة).
جوقة كاملة من الغباء حاصرتْ روحي وفتكتْ بها.

عندما أشرقتْ الشمس صمتت هذه الأشياء كلها، نهضتُ عن السرير ومشيتُ إليه.. هززته من كتفه عدة مرات، صرختُ عليه.. لم يستيقظ.

لقد مات.. انحنيتُ وحضنته كطفل بين ذراعيّ ثم حملته لأمدد جثته على سريري.
رميتُ الغطاء الأبيض على وجه الجثة وخرجت.

مشيتُ طويلاً في شوارع هذا الصباح البارد وأنا أدخن، نسيتُ أمر جثة الحياة جميلة، التي تركتها على فراشي في المشفى.

كنت أفكر: عليّ العثور على طريقة مضمونة تجبر إله المنتحرين على أن يقبلني كفردٍ في عالمه الصغير.. ويجب أن يكون هذا ــ على أبعد تقديرــ خلال قصتين.. لا أكثر..

(124)    هل أعجبتك المقالة (124)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي