أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

القصص الخالدة.. مصطفى تاج الدين الموسى

ناشط يرتدي قناع غاز قرب دمشق -رويترز

*ابتسامات شاحبة في ضباب الكيماوي
هذا الضباب الكثيف للغاز الكيماوي، تسلل بخفة في عتمة الليل لينتشر بثقة في أرجاء البيت. 

العائلات النائمة هنا، استيقظتْ على صدى سعالها، وعندما انتبهتْ لهذا الضباب ركضتْ بذعر لتخرج من البيت بفوضى بشرية عارمة. هذه الطفلة.. وحدها فقط، لم تخرج.. إنما ظلّتْ لدقائق تبحث بخوف عن صديقتها الحلوة، تلك الدمية الملونة والعزيزة على قلبها. 

عندما عثرتْ عليها، كانت قواها قد خارت.. حضنت دميتها إلى صدرها لتستلقي على سريرها وهي تختنق ببطء. 

فجأةً.. اقتحم الغرفة طبيب ومعه بعض المتطوعين، على وجوههم كمامات بيضاء. أسرع إليها وهو يجهز إبرةً ليحقنها بها علّه ينقذها. عندما انحنى إليها خطفتْ من يده الطفلة تلك الإبرة، ثمَّ التفتتْ بوهن لتغرسها بلطفٍ في ساعد دميتها، حيث حقنتها إياها ببطء حتى تنقذها، وهي تتأمل بصعوبة وجه دميتها وتبتسم لها باطمئنان ابتسامتها الشاحبة الأخيرة. 
دميتها أيضاً.. تأملتها بصعوبة، وهي تبتسم لها ابتسامتها الشاحبة الأخيرة.

* قصص في الزنزانة
إلى ذكرى جميل حتمل
خلال بضع سنواتٍ من الفراغ، وخوفاً من الملل.. تسلى بأن كتب قصصاً كثيرة، بأحجامٍٍ مختلفة.
أنفق عليها كل ما جناه من أحلامٍ وأمنيات، من حزنٍ وحب، من فرحٍ وضجرٍ وخيبات، من سجائر وفناجين قهوة و نشرات أخبار.

ليل كل يوم كان يضع قصصه برويةٍ على الطاولة ويداعبها ثمَّ يقبلها، كأنها أطفاله.

شبحٌ مزعجٌ ثقيل الدم، كان يطلع دائماً خلال الليل من جدار غرفته. يمدّ له لسانه و يعيّره بأن لا جريدة نشرتْ له قصة واحدة، السبب: لأن بعضها - كما قال أحدهم - تشوه ألوان الصورة الجميلة للبلاد.
وبعضها الآخر لا تضحك القارئ، ولا تصيبه حتى بمجرد دغدغة.

لم يحاول -رغم غضبه الدائم منه- التخلص من هذا الشبح المزعج، فهو كان يتسلى في ليالي وحدته بسماع تلك السخريات التي تنبع من الجدار.

ذات مساء، رجالٌ بثياب داكنة، سرقوه من الحياة مع قصصه، ليقذفوا بهم إلى زنزانةٍ مظلمة. زنزانة تشبه القبر، لا يوجد فيها نافذةٌ صغيرة أو شبحٌ مزعج يسلي وحدته.

غضب كثيراً بين هذه الجدران، فالثقوب كانت منتشرةً على سقف الزنزانة، سامحةً لقطرات الماء بهطولٍ شبه دائم.

ثقوبٌ أخرى كانت موزعة على أرضية الزنزانة، مانحةً الصراصير و الفئران فرصةً للتنزه فيها كل مساء. 

ثقوبٌ عديدة كانت موجودة على جدران الزنزانة، تبث لأذنه طوال الليل صرخات ألمٍ لسجناء الزنازين المجاورة.

وحشة الظلمة جعلته يحن لشبحه، تلك الثقوب الكثيرة أرّقتْ لياليه، فصار دائماً يبتلع غصباً عنه الشتائم، التي كانت تصل إلى أعلى لسانه بين الفينة والأخرى.

فجأةً تذكرها، جلب من تلك الزاوية كيس القصص، ثمَّ صار يدسُّ قصة واحدةً داخل كل ثقب، على السقف وفوق الأرض وفي الجدران.. تعب، مسح عن جبينه بظاهر كفه، عرقه الذي سال بغزارة. 

انتهى بعد ساعات، عندئذٍ جلس واستنشق بغبطة نفساً عميقاً، ثمَّ أشعل سيجارة وعبّ منها.

قصةٌ أخيرة اضطر لتعليقها في منتصف الزنزانة، لينتشر ضوءٌ خفيف في عتمتها.

تتالت أيامه داخل هذه الزنزانة، لا شيء يشوب حياته فيها سوى السعادة، وطعامٌ غريب المذاق، عناصره الأولية غير معروفة.

بعض الأحايين كانت ساعات من الضجر تصيبه، لكنه غالباً ما كان يقتل ذلك الضجر بأن يكتب قصةً جديدة، خوفاً من ظهور آخر لثقبٍ جديد.

(156)    هل أعجبتك المقالة (124)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي