انهيار الاقتصاد السوري، بعد زوال النظام أحد أهم الهواجس الكامنة خلف طرح بعض الرؤى الاقتصادية، لكنها بداية يمكن البناء عليها في المرحلة الانتقالية، التي يعتبر خلالها الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالاستقرار الاقتصادي، وهي القناعة التي دفعت "مجموعة عمل اقتصاد سوريا"، إلى وضع خطوات عملية تضمن حماية الاقتصاد الوطني السوري من الانهيار، والركيزة الأساسية لذلك تتمثل في الاعتماد على "مشروع مارشال سوريا" لإعادة الإعمار، بإشراف كل من الإمارات العربية المتحدة وألمانيا، وبجهود وتعاون من قبل أمانة "مجموعة عمل أصدقاء سوريا المعنية بإعادة بناء وتنمية الاقتصاد السوري".
2،365 مليون بيت متضرر
ولم يعد خافياً على أحد حجم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها سوريا وهنا بيّنت مجموعة عمل اقتصاد سوريا عبر جملةٍ من الأرقام بعض الحقائق لتنطلق منها إلى تحديد رؤية المشروع الجديد، حيث أشارت إلى تراجع قوى الإنتاج بشكل مباشر نتيجة انعدام الاستقرار الداخلي وتراجع عرض السلع والخدمات، كما ارتفعت تكاليف الإنتاج، وفقدت الليرة السورية أكثر من 50% من قيمتها، في حين وصل معدل التضخم إلى نسبة تتجاوز 32% حسب الأرقام الرسمية. وتقدر خسائر الاقتصاد السورية منذ مارس (آذار) 2011 بنحو 50 مليار دولار. لكن الدمار والخراب الذي لحق بالبنى التحتية للاقتصاد والمباني المدمرة يتجاوز بكثير هذه الآثار نتيجة القصف والتدمير الممنهج للمدن والقرى، حيث يقدر عدد المباني المدمرة حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان 2.365 مليون مبنى تضررت بدرجات متفاوتة. وتقدر الشبكة تكلفة إعادة إعمار هذه المباني بمبلغ 35 مليار دولار، وتحتاج إلى ثلاث سنوات على الأقل لإعادة البناء. بينما تقدر التكلفة الإجمالية لإعادة إعمار سوريا وتعويض المتضررين بحسب اقتصاديين سوريين بمبلغ يتراوح بين 60- 200 مليار دولار.
من هذه الأرقام رأى الفريق المكون من أربع منسقين ومجموعة من الخبراء الاقتصاديين، ضرورة العمل على الاستفادة من كل الخبرات المتاحة لتصويب ودعم خطط تطوير الاقتصاد السوري ومعالجة التحديات الاقتصادية في المرحلة الانتقالية لدعم تماسك الدولة السورية والحؤول دون تحولها إلى دولة "فاشلة" تقود إلى تفسخ اقتصادي واجتماعي وأمني ومزيد من الدمار في البنى التحتية.
مسؤولية إعادة إعمار سوريا تقع على عاتق السوريين وشركائهم، وفق ما ورد في المشروع، الذي علل القائمون عليه السبب الذي يقف خلف اعتماد "مشروع مارشال سوريا" على غرار مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا الذي تم إطلاقه بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يعتبر الجانب الاقتصادي من أهم الجوانب المتضررة في سوريا، وبالتالي اختيار مشروع مارشال أتى بعد التأكيد على أنه "مشروع وطني يهدف لبناء وحماية الدولة السورية بعيداً عن تفاصيل تشكيل السلطة، وهو مشروع سيادي ومستقل بدون أي وصاية، ولا يخضع لأي توجهات أيديولوجية أو تجاذبات سياسية فهو ملك للشعب السوري وسيوضع بتصرفه وتصرف أي حكومة وطنية انتقالية سورية قادمة لمساعدتها على حماية وتطوير الاقتصاد السوري، وإدارة مقدرات الدولة، والاستثمار بالمصادر البشرية السورية والكوادر الوطنية المحلية والطاقات الإبداعية الهائلة التي كشفتها الثورة السورية".
وبسبب حساسية موضوع الدول المانحة، وما يمكن أن تفرزه من تبعية سياسية، التزمت المجموعة بالتأكيد على أن المواطن السوري هو لبنة الأساس في أي مشروع وطني لإعادة إعمار سوريا فالشعب السوري وحده هو الذي يقرر مستقبل الدولة السورية الجديدة وكيفية النهوض باقتصادها وإدارة مقدراتها بكل استقلالية وشفافية، مع الالتزام الكامل بسيادة القرار الوطني الذي لا يخضع لأي تبعية وشروط أو إملاءات خارجية، ويضع السيادة الاقتصادية المحلية والمصلحة الوطنية العليا للشعب السوري كركيزة أساسية في مشروع التنمية الاقتصادية وإعادة إعمار سوريا.
رؤية سداسية الأبعاد
ومن منطلق إعادة البناء في المرحلة الانتقالية حاولت المجموعة الإحاطة بغالبية جوانب الاقتصاد السوري وتحقيق تنمية حقيقية، تحمي البلد من الانهيار بعد زوال النظام السوري، وبناءً على ذلك وضعت المجموعة ستة محاور رئيسية عبرت عنها بأنها رؤية إقتصادية وطنية، تتمثل في استئناف سير النشاط الاقتصادي وذلك من خلال استمرار وحماية الخدمات العامة، وحماية المنشآت والمرافق العامة، والخاصة لا سيما في المرحلة التي تلي سقوط النظام، وإعادة بناء المدن السورية، ومحاربة التضخم ودعم استقرار العملة السورية.
وثاني محاور الرؤية تمثلت في التطلع إلى صون عمل وفعالية الخدمات والمنشآت العامة من خلال: الاستمرار في دفع الرواتب للموظفين في القطاع العام من خلال دعم الميزانية من المانحين الدوليين، واستئناف الصادرات، وزيادة الدخل العام عن طريق تحصيل الضرائب، وتحسين كفاءة العاملين في القطاع العام، والحفاظ على الخبراء المؤهلين في كل القطاعات الإدارية.
كما خصصت الرؤية الاقتصادية الوطنية محوراً يتمثل في ضرورة التأسيس لدولة القانون وتشجيع الحكم الصالح الرشيد من خلال: تعزيز مبادئ الشفافية، والمحاسبة، ومحاربة الواسطة، والمحسوبية، والفساد، إلى جانب ضمان استعادة الممتلكات، والأموال المنهوبة من قبل النظام السابق للدولة السورية، كما أشار هذا المحور إلى ضرورة ضمان حق كل مواطن سوري في المحاكمة العادلة أمام قضاء عادل ونزيه، مع ضمان التطبيق العادل والناجز للأحكام القضائية، وتطوير نظام ضريبي يقوم بتحصيل، وإعادة توزيع العائدات تماشياً مع الأهداف الوطنية، وتشجيع اللامركزية، والتنمية الاقتصادية المحلية للبلديات على مستوي كافة المدن السورية.
وكان للتبادل التجاري حصة من رؤية مجموعة عمل اقتصاد سوريا حيث أشارت في أحد المحاور إلى إعادة وصول الموارد، والبضائع والخدمات السورية للأسواق العالمية، من خلال العمل مع الشركاء الدوليين لضمان رفع العقوبات الاقتصادية فور سقوط النظام الحالي، وتعزيز وتفعيل العلاقات التجارية مع دول الجوار، ومع الشركاء التجاريين ذات المكانة في الاقتصاد والسوق العالمي.
كما تطلعت المجموعة في رؤيتها لسوريا الجديدة ضرورة تقوية ودعم القطاع الخاص من خلال تطبيق سياسات التنافسية، وإجراءات الشفافية، وإصلاح القطاع المالي لتهيئة البيئة الاستثمارية، ليبدأ رجال الأعمال السوريين أعمالهم أو يبدأوا بتوسيعها، وتركيز الاهتمام على احتياجات، ودعم المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، وضمان المسؤولية الحكومية، والاجتماعية لإعادة بناء القطاعات المملوكة للدولة، وضرورة خلق مناخ استثماري لتشجيع الاستثمارات المحلية، والخارجية، وتشجيع الجاليات السورية في الخارج للمساهمة في إعادة بناء الاقتصاد السوري.
آخر المحاور التي وضعتها المجموعة في رؤيتها الوطنية تمثلت في تشجيع المساواة والعدالة الاجتماعية من خلال: تمكين المرأة السورية، وتعزيز مشاركتها في كافة القطاعات السورية، بما فيها قطاع الأعمال، وإلغاء كافة الممارسات التميزية على سيبل المثال تهميش الأكراد في منطقة الجزيرة، وصياغة سياسات وبرامج فاعلة لسوق العمل، وضمان توفير نظام كفء للضمان الاجتماعي، وضمان حرية التجمع لاستقطاب، وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني.
إجراءات اقتصادية إسعافية
وفي الخطوات العملية اختارت المجموعة أربع محاور رئيسية، لبرنامجها الاقتصادي، بدأتها بالحاجات العاجلة والملحة التي أفرزها الدمار والخراب الذي لحق في البلاد، وحمل المحور عنوان الإجراءات الاقتصادية الفورية، ويأتي بإشراف الإمارات العربية المتحدة، ويهدف إلى تحديد الخدمات الأساسية العامة المطلوبة، والتي تشمل عمليات تقييم الحاجات الضرورية المتعلقة بالغذاء والزراعة وإمدادات المياه والطاقة والإدارة المالية العامة خلال الأسابيع والأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام، ويركز هذا المحور على إجراء استطلاعات داخل سوريا لتحديد حجم الأضرار في البنى التحتية السورية والقطاعات الاقتصادية الرئيسية، ووضع دراسات تفصيلية حول التدابير الأولية المطلوبة لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة، وحماية القطاعات الاقتصادية وتطويرها على المدى البعيد، وأبرزها التصدي لمشكلة اللاجئين، وتقديم إغاثة طوارئ فورية و رعاية طبية وغذاء ومأوى للمناطق المتضررة والمنكوبة، وإعادة الخدمات الأساسية في أنحاء الدولة في أقرب وقت ممكن مثل إمدادات المياه والكهرباء والتعليم والصحة العامة و غيرها، وهذا كله يتطلب تقييم وضع البنى التحتية والأضرار الماديّة في أنحاء سوريا و العمل على إعادة إعمار وتأهيل المناطق المدمرة والأحياء الأشد تضرراً.
وكون المشروع قائماً أساساً على مساعدة الدول المانحة لإعادة الإعمار والبناء، اختارت مجموعة عمل اقتصاد سوريا محورها الثاني متمثلاً بالتنسيق مع الجهات المانحة ويأتي بإشراف الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، ويهدف هذا المحور إلى التواصل والتنسيق مع السوريين والشركاء الدوليين والجهات المانحة من أجل التحضير لإعادة بناء الاقتصاد و التنمية في سوريا، ولضمان توفر سيولة نقدية تمنع الاقتصاد السوري من الانهيار السريع وتحديد الاحتياجات التنموية البشرية والحصول على الدعم المالي من الجهات والدول المانحة للمساعدة بإعادة إعمار سوريا مع الالتزام باستقلالية القرار بدون خرق للسيادة الوطنية بإدارة الاقتصاد السوري الوطني، ومحاولة إيجاد المؤسسات والدول الراغبة بتقديم المنح والاستثمار في سوريا بدون شروط وقيود أو تبعية اقتصادية كي لا تترك دفة إدارة الدولة والاقتصاد لنزاعات أخرى تتحكم بحياة الناس ومصير الاقتصاد الوطني السوري الذي هو ملك لكل السوريين ويجب أن يبقى بعهدة السوريين.
ووفقاً للمشروع فإن هذا المحور سيركز على محاولة إيجاد مخصصات لتمويل مشاريع إعادة إعمار سوريا بكل استقلالية وشفافية عبر جملة من المقترحات، تتمثل في تمويل جزء من فاتورة إعادة الإعمار من الأموال المصادرة من الأسد وعائلته، والتمويل من الأموال المحجوزة في البنوك الأوروبية لرجال النظام، وثالث الموارد تأتي من خلال دعوة رجال الأعمال ورؤوس الأموال المهاجرة للعودة والاستثمار في سورية، إلى جانب محاولة الحصول على القروض بفوائد قليلة كي لا تغرق سوريا الديون، من المشاريع المستقبلية التي سيعمل عليها محور تنسيق صندوق المانحين هي وضع الآليات الصحيحة للجهات المانحة لتشجيعها على تقديم الدعم بشفافية ووضوح بعيداً عن الرشوة والفساد والمحسوبية التي كانت سائدة في عهد نظام الأسد، وعقد شراكات مع جهات مانحة ومؤسسات دولية مستقلة عملت في السابق في سوريا كالمفوضية الأوروبية ومجلس التعاون الخليجي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإسلامي وغيرها، إضافةً إلى إنشاء الصندوق الوطني السوري لإعادة إعمار سوريا، وإنشاء البنك السوري للكفاءات والخبرات للاستثمار بالكوادر الوطنية السورية، وإنشاء وتمويل برامج لتمكين المرأة والشباب في برامج التنمية والتطوير الاقتصادي.
وإلى جانب تأمين التمويل وتأمين الحاجات الملحة أشار المشروع في محوره الثالث إلى السياسات الاقتصادية و الإصلاح، والذي يأتي بإشراف ألمانيا، ويختص هذا المحور بالبحث في التحديات والمشاكل التي تعوق عجلة الاقتصاد السوري، ووضع تصورات وخارطة طريق حول السياسات الاقتصادية والإصلاح على المدى المتوسط. وسيركز هذا المحور على تمكين الاقتصاد السوري وكيفية حمايته من الانهيار ووضع سياسات إصلاحية عبر النظر في ما تم إنجازه مع شركاء دوليين ومحليين في هذا المجال. وسيعمل هذا المحور على إشراك الخبراء الاقتصاديين السوريين ورجال الأعمال والقطاع الخاص ومؤسسات اقتصادية عملت في سوريا في السابق لوضع تصورات وخارطة طريق لإصلاح وتطوير وتنمية الاقتصاد السوري واستعراض التجارب السابقة والبناء عليها.
قد تم تفويض هذا المحور لتحضير ثلاث خطط تفصيلية لكل قطاع اقتصادي وفق جدول زمني بينه المحور وفق ما يلي: من اليوم الأول لغاية ستة أشهر ما بعد تغيير النظام و الميزانية التقديرية، ومن ستة أشهر لغاية سنتين ما بعد تغيير النظام و الميزانية التقديرية، ومن سنتين لغاية خمس سنوات مابعد سقوط النظام و الميزانية التقديرية.
للخاص دوره
وخصص المشروع محوره الأخير لمساهمة القطاع الخاص ويأتي بإشراف دولة الإمارات، ويهدف هذا المحور إلى التواصل والتنسيق مع كافة الفعاليات الاقتصادية والتجارية الوطنية السورية من أجل توحيد الجهود وتعبئة القطاع الخاص وإشراكه في مشروع إعادة إعمار سوريا ودعم عملية الانتعاش الاقتصادي و التنمية وجذب رؤوس الأموال السورية للاستثمار في مشاريع إعادة إعمار سوريا. ويركز هذا المحور بالتعاون مع رجال الأعمال والمستثمرين السوريين على تحديد احتياجات القطاع الخاص وسبل النهوض به عبر ورشات عمل ودراسات ومؤتمرات لتعزيز شراكة القطاع الخاص في تطوير وإدارة الاقتصاد الوطني السوري ومقدرات الدولة السورية الجديدة.
وضمن رؤية مجموعة عمل اقتصاد سوريا، بعض المشاريع و في مقدمتها مشروع بنك الكفاءات الوطنية السورية، ويتلخص ببناء بيت الخبرة السوريى عبر ترشيح أسماء من شخصيات نزيهة ونظيفة اليد وعلى درجة عالية من التأهيل لاستبدال كل الوجوه الفاسدة التي تتصدر المشهد الاقتصادي في سوريا بعد سقوط النظام مباشرة بشخصيات هي من قلب تلك المؤسسات وتحظى بمقبولية وسمعة طيبة، لأن الهدف الأساسي بعد سقوط النظام هو المحافظة على مؤسسات الدولة وتأمين أكبر قدر ممكن من الاستقرار في وطننا الحيبيب سوريا بعد سقوط النظام.
كما أشارت المجموعة إلى مشروع لإعادة إسكان متضرري الحرب في سوريا، تعمل على إحصاء عدد المنازل المتضررة، وإحصاء العدد الكامل للمنازل المطلوبة لإسكان المتضررين والمهجرين على مستوى القطر، وبالتالي حساب الميزانية لإعادة إسكان متضرري الحرب في سورية، وتأهيل البنية التحتية المتضررة، ووضع الخطة الزمنية على ضوء الميزانية المرصودة، إلى جانب تنظيم حملة لجمع التبرعات لإعادة الاعمار، ووضع الخطط المرحلية لإعادة الإعمار والإسكان وتأهيل البنية التحتية، وأشار هذا المشروع إلى التقنيات الرديفة مؤكداً على ضرورة توطينها واعتبارها جزءاً من إعادة الاعمار، كما نبّه المشروع إلى التخطيط لضواحي جديدة، وحصر اليد العاملة الموجودة في البلد، وتصنيفها،وايجاد فرص العمل لها، منوهاً في ملخص المشروع إلى مواد البناء المحلية المستعملة في البناء، ووضع برنامج تثقيفي مبسط للعامة، للمشاركة في أعمال إعادة البناء، كما أشار إلى دليل تدعيم العناصر الإنشائية المتضررة بشكل بسيط، والتكسير الآمن في المباني المتضررة.
وختمت المجموعة بتأكيدها على أن ما تصبو إليه ليس حلماً ولا خيالاً، وهذا ماحققته أمم أخرى، ولا يعوز الشعب العربي السوري صدق الإرادة والتصميم والفكر الحر والنقاء النفسي.
بلقيس أبوراشد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية