أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عسل وعلقم: صبر السوريين وصبر الألمان! ... أحمد عمر*

صورة تعبيرية

مدح صديقٌ الصبر عند الألمان، فهم قوم يعملون بدأب ويكتمون غضبهم، وليس الشديد بالصرعة، وهم قوم أشداء، فعارضته ليس لأن الكاتب معارض دوماً، كما قال مكسيم غوركي: خُلقت لأعارض، بل لأني أرى أن الصينين أكثر الأقوام عملاً على الأرض، والعطل عندهم وعند اليابانيين مرذولة وقليلة وتشبه العار، حتى أن يابانياً اعتنق الإسلام فاضطر إلى ترك عمله من أجل عطلة الحج، والألماني يحبُّ الفسحة والأعياد، ولديه عطل كثيرة، وعطلة نهاية الأسبوع عيد يستحق التهنئة، حتى إننا تعلمنا منهم أمراً وهو عبارة: جمعة مباركة، وهي بدعة لطيفة، والمراجعات في دوائر الدولة تنتهي في الثانية عشرة حتى يتفرغ الموظف لشؤون أخرى، ورأيت أن البقر تشابه على صديقي، فالألماني ينتظر دوره عند الطبيب بصبر، وصبره لن يطول، فهو يدرك أنه لو ظُلم فإن حقه لن يضيع، وهو يترفع عن حلِّ مشكلاته مع الآخرين بيده كما نفعل نحن أسوة بعنترة بن شداد، فكأننا ما نزال عبيداً لدى شداد بن قراد، وذلك لأمرين هما: العنفوان العربي، وضعف الثقة بالقضاء. والعربي شديد العنفوان بإقرار من ابن خلدون وموافقة  الداعية محمد الغزالي.

وأتعجب من ولع الألمان باللعب بطائرات الدرون وسفن الدرون التي تقاد عن بعد، فلا صبر لي على اللعب بها، وأجدها من ألعاب الأطفال.
الصدق محمود، لكن الطفولة مذمومة عند العرب، والشاعر بأحد التعاريف طفل ينطق بلغة الكبار مشاعر الصغار. الأطفال اسمهم الجهّال عند أهل البادية.

تعلمت الكثير من الصبر، الصبر اسم لنبات شديد المرارة، ولكن الظلم أمرُّ منه، جاء في لسان العرب: من أَسماء الله تعالى: الصَّبُور تعالى وتقدَّس، هو الذي لا يُعاجِل العُصاة بالانْتقامِ، وهو من أَبنية المُبالَغة، ومعناه قَرِيب من مَعْنَى الحَلِيم، والفرْق بينهما أَن المُذنِب لا يأْمَنُ العُقوبة في صِفَة الصَّبُور كما يأْمَنُها في صِفَة الحَلِيم. والصبر صبران، صبر على ما تحبُّ وصبر على ما تكره.

أقف صابراً على إشارة المرور الحمراء التي لن تطول سوى دقيقة، وأخالف النظام عندما أكون وحدي، فأنهب تلك الدقيقة إذا خلا الطريق، بعد أن أتلفت يميناً ويساراً وأسرق الوقت، وعليها غرامة، فهي سرقة! وغرامتها عشرة يورو، بينما يقف الألماني على الإشارة صابراً محتسباً، والسبب أنَّ كثيراً من الحياة قد فاتني، فقد قضيت نصف عمري، يوبيلها الفضي الأول وذهبيتها أيضاً، وأنا أنتظر محمرّاً من الغضب على نار الانتظار، فلم تكن حياة تلك التي عشتها في عهد الأسد، كان الأسد يدرك معنى الاستعباد، وبدأ بالرغيف، وما زال الشعب السوري ينتظر الرغيف مع أن سوريا من أثرى البلدان بالقمح، وقمحها من أجود الأقماح، فكان حالنا كحال العيس في البيد يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول.

قضيت نصف حياتي أنتظر الخبز وختم حوافر الحكومة على الأوراق، حتى صار الخبز من أختام الحكومة، ولا أختام سوى برشوة، فحتى العبودية الكريمة لها ثمن، بينما يعرف الألماني أن الإشارة ستعمل بانتظام، ستفتح بعد دقيقة، لكن الألماني يزمرُّ لي بشدة ببوق السيارة إن وجدني أسوق بسرعة خمسين كيلومتر في طريق سرعته مائة كيلومتر في الساعة، والألماني شديد الغضب إذا سلب أحد حقه في دور على سكة الكاشير مثلاً، وقد ارتكبت خطأ مرة عندما تجاوزت الدور، لأني نسيت بطاقتي عند موظفة الاستعلامات في عيادة، فغضب الألماني غضباً وزأر في وجهي، فمقابلة الاستعلامات خلوة، وحق مقدس لا يجوز أن يشارك صاحب الخلوة فيه أحد قط. هناك قول ألماني سائر ترجمته:" الصبر هو فنُّ الغضب على نار هادئة"، يشبه الثأر عند البدوي الذي يصبر على ثأره أربعين سنة، وعند أخذ البدوي بثأره يقول: استعجلت.

شاهدنا يوتيوب لسيدة ألمانية قامت بعملية شبه انتحارية، وهي خوض تجربة الصيام، فصامت يوماً من رمضان، ولشهر رمضان أسماء كثيرة منها: شهر الصبر. استطاعت الوصول إلى خط النهاية، وهو خط الزوال الشمسي حتى غابت الشمس في عين غير حمئة.
ذكرت السيدة الألمانية في الفيديو الذي شاهده عشرات الآلاف أنها لن تدخل تلك التجربة الشديدة القاسية مرة أخرى، وأنها ظلت مدة بعد تجربة ذلك اليوم المشهود مذعورة، مثلها مثل الملدوغة التي لدغت من ثعبان مبين فظنت كل حبل ثعباناً، لقد عطشت دهراً وجاعت عصراً بعد صوم يوم واحد، بينما نصوم نحن شهر رمضان، وكثير منا يصوم ستاً من شوال، والعشرة من ذي الحجة. وأدركتُ قوماً يصومون كل اثنين وخميس عملاً بالسنّة الكريمة، ويصومون الأيام البيض من كل شهر، وهذا يعني أن بعض المسلمين يصوم ثلث أيام السنة، فلماذا نغضب وينفذ صبرنا مع آذان المغرب في رمضان، فنتدافع، ونضيّق على بعضنا الطريق، حتى أن كثيراً من الحوادث تقع في البلاد العربية ساعة الإفطار؟

قد يقول قائل: إنه قلة الإيمان، والصبر رأس الإيمان.

قال الإمام الشافعي: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه سورة العصر لكفتْهُم. فهي تضع شروطاً وأركاناً أربعاً للفوز بالفلاح، وهي الإيمان والعمل الصالح وقول الحق والصبر، فالصبر هو الزمن، وإني إذ أشكر كل ألماني صبر على الوافدين، الذين يضايقونه في الطريق ويزاحمونه على دور الطبيب، لكن تفسيري لصبره الالماني هو ثقته بحكومته، فألمانيا دولة قانون، وهي غنية وديمقراطية، والراكب الألماني يعرف أن حقه محفوظ، فإن امتلأ الباص، فسيأتي غيره، أما العربي، فليس له ثقة بحكومته، الحكومة هي عدوه وخصمه، لذلك فهو يخرق الدور، وهو يقتدي بالرئيس البطل الأول في خرق القانون والدستور.

سنذكر مثالا عن خرق الرئيس للدستور المقدس وهو أعلى من القانون، الأسد لم يصبر حتى يكبر ست سنوات، فغيّر الدستور في ربع ساعة. لقد كسر الدور على عشرين مليون إنسان!

يربط الباحث القدير والمفكر عبد الوهاب المسيري بين العلمانية وبين الصبر فيقول: إن العلماني الشامل أشبه بالحيوان، فالحيوان لا يعرف معنى الصبر، فإن جاع أكل، وإن اغتلم سافد، إنه كائن يعيش بحواسه الخمس.

أدركت بعضاً من قومي أمسوا يقصدون القضاة في البوادي وشيوخ القبائل والفقهاء ليحكموا بينهم في القضايا  والمنازعات، فالفقيه والشيخ يحكمان في القضية في ساعة أو ساعتين، والفريقان المتقاضيان يعززان ويكرمان ويشربان القهوة، وقد يدعيان إلى وليمة، ويخرجان راضيين، بينما يضيع المتخاصمون في القصر العدلي أو القصر الظلمي سنوات عدا عن إنفاق الأموال من غير طائل، واليأس، ومرارة الانتظار، حالنا مثل حال سرحان عبد البصير، في شاهد ما شفش حاجة، التي أحب الناس بطلها لأنه يشبههم، وهو فيها مرعوب من وقوفه شاهداً في قضية قتل أمام المحكمة، فهو لا يضمن خروجه سالماً من قصر العدل!

لفضائل الصبر عند المسلمين في الرقائق كتب وفصول ومصنفات، الصبر من أسباب الفوز بالجنة بعد قول الحق، أما الصبر مع قول الباطل كما هو حالنا مع حكامنا فاقدي الصبر فقد أفضى إلى ما ترون: سوريا محروقة، ومصر تباع بالمفرّق، واليمن بلا مصير منظور.

العسل أنواع، فهناك عسل الزهور، وعسل الحمضيات، بحسب المرعى، وعسل الصبر من ألذّ أنواع العسل، وليس من مكافأة أحلى من الجنة، يقول صديق صبر لمدة أسبوعين عن أكل السكر، ثم أكل عرنوس ذرة: إنه أطيب من العسل!

يشترك الأنبياء جميعاً في فضيلة الصبر، وقد سجدت الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ليوسف عليه السلام صاحب أحسن قصة في العالم، وكذلك أيوب عليه السلام الذي ضربت به الأمثال في الصبر، النبي الوحيد الذي بدرت منه بادرة غضب هو يونس عليه السلام، فابتلعه الحوت حتى يتعلم معنى الصبر.

أجزم أننا أصبر من الألمان، فقد صبروا خمس عشر سنة على الحرب العالمية الثانية، بينما صبرنا نصف قرن على أسرة الأسد، لم يكن لهتلر أسرة وقرادحة، وهذه فضيلة تحسب له بين الطغاة،  ومن فضائله أنه انتحر فولدت ألمانيا بعد موته ولادة ثانية، بالأمس حاصر فيروس صغير الألمان فتعاركوا على المناديل؟!

وما يستوي الأعمى والبصير.
ولا المنديل ولا البرميل.

*من كتاب زمان الوصل
(317)    هل أعجبتك المقالة (282)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي