لم يكن استيلاء تنظيم "الدولة" على مدينة الرقة واستفراده بها وليد الأيام والساعات التي دارت فيها المعارك بينه من جهة ومختلف الفصائل الفاعلة هناك من جهة أخرى، فقد سبق ذلك مقدمات تجلت في "احتكاك" التنظيم المتكرر مع عدد من الفصائل، والذي بلغ ذروته في تفجير نفذه ضد مقر "لواء أحفاد الرسول" ونجم عنه سقوط عدد من القتلى في صفوف اللواء.
كان الانفجار بلا شك تطورا "نوعيا" وخطيرا في علاقة الفصائل مع بعضها، و"فاتحة" لاختطاط نهج جديد دشنه التنظيم، معلنا أن الكلمة العليا فيه ستكون للستر والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، محاولا في الوقت عينه أن يظهر ذلك بمثابة عقاب مستحق على "فساد" و"إفساد" كان يرمي بهما هذا الفصيل أو ذاك، قبل أن تتوسع دائرة المتهمين لتشمل مختلف الفصائل بما فيها "الإسلامية"، ولتبلغ مداها مع إطلاق ألفاظ: "الصحوات، المرتدون، الكفار..."، على كل من لا يخضع لرؤية التنظيم وسلوكه أو منهجه.
ورغم أن استهداف لواء عاصفة الشمال في ريف حلب الشمالي، كان الحدث الأكبر الذي فتح الأعين على "استراتيجية" التنظيم في ابتلاع الفصائل أو تصفيتها، وإعادة تحرير المحرر، فإن الاشتباك مع "أحفاد الرسول" واستهدافه كان المؤشر الأسبق على جدية التنظيم في تطبيق تلك "الاستراتيجية"، لكن الكثير من الفصائل، بل الكثير جدا، لم تكن تدرك أو ترغب في أن تدرك أبعاد ما ينتظرها.
*وشاة
كانت كل فصائل الجيش الحر المتمركزة في الرقة تحت أعين "الأمنيين" وشهودهم (الشهود هو الوصف الذي يستخدمه التنظيم غالبا لمن يقومون بأعمال الوشاية)، وكانت هذه الفصائل تخضع لمراقبة دقيقة وأحيانا لصيقة حسب ما تكشف السجلات المخابراتية للتنظيم، لكن "ألوية أحفاد الرسول" استحوذت بشكل خاص على جزء مهم وكبير من تلك السجلات التي استعرضتها "زمان الوصل"، وتجلى ذلك في كمّ ونوع وتفصيل المعلومات المدونة عن "الأحفاد" قياسا بغيرهم من الفصائل (نحو 20 فصيلا)، دون أن يتضح كثيرا مردّ هذا التركيز على "الأحفاد"، وإن كانت بعض العبارات الواردة في السجلات تشي ببعض الإجابات.
فتحت عنوان "أحفاد الرسول"، يكتب أحد أمنيي التنظيم بالتفصيل موضحا قوام الألوية من الكتائب والتسليح والعناصر، مستهلا تقريره بالقول: تجمع ألوية أحفاد الرسول في محافظة الرقة يتكون من عدة كتائب متوزعة في محافظة الرقة وريفها، ويتراوح عدد هذه الكتائب بين 11 و10 كتائب، وبعد قتل أبو الزين انتقلت القيادة مؤقتا إلى أبو مازن، وهو قائد كتيبة الشهيد أبو الحسن.. مع الشرعي أبو بكر وهو بنفس الكتيبة".
ويتابع تقرير مخابرات التنظيم، معددا أسماء الكتائب التابعة لـ"الأحفاد" وفيضاً من البيانات عنها، ومنها كتيبة الشهيد أبو الحسن، مشيرا إلى أن "مقرها محطة القطار مديرية السكك الحديدية، وتتكون من حوالي 17 إلى 20 مقاتل وكلهم متسلحين ببواريد روسية ويمتلكون 3 رشاشات بي كي سي ويمتلكون رشاش دوشكا 12,7 ومركب على بيك آب ولديهم حوالي 5 -6 سيارات وهي بيك آب وجيب".
ويقول التقرير بأن "كتيبة أبو الحسن" ليس لديهم حواجز ثابتة، بل حاجزين طيارين (متنقلين)، مضيفا: "كما قالوا -أنا لم أرها- إنهم لا يمتلكون بيوت غنموها إلا بيت واحد وهو عند محطة القطار أيضا، وأبو مازن ينام في بيته القديم الموجود في حارة البدو شمال دوار النعيم، عند مديرية الشؤون والعمل قديما".
ثم يتطرق التقرير إلى قيام القائد العام لتجمع الأحفاد "المنشق ماهر النعيمي" بإرسال 75 مقاتلا من قيادة التجمع في حماة إلى الرقة، مع أسلحة خفيفة ومتوسطة، يستفيض الأمني في تعدادها حتى ليخيل لقارئ التقرير أن هذا الأمني قيادي في "الأحفاد" موكل بمعاينة تلك الأسلحة وجردها، فيقول: "يمتلكون أسلحة متوسطة مثل مدفع 23 عدد 2، ولكن تم مشاهدة واحد فقط، كما لديهم رشاشات بي كي سي ولديهم دوشكا عيار 14,5 ودوشكا عيار 12,5 عدد 2، ولديهم راجمات صواريخ كما يملكون صواريخ غراد، وأيضا صواريخ محلية الصنع حوالي 30 صاروخ، كما يملكون مدفع هاون عيار 120 و50 حشوة لها"، ومثل هذه الاستفاضة في الاستقصاء لايمكن إدراجها تحت بند حب الاطلاع أو الاطمئنان على حالة أخ أو صديق، بقدر ما هي تجسس يضاهي في فضوله التسلل إلى غرف النوم.
*يُقال
ولعل كملة السر في ذلك، هي تلك التي استخرجتها "زمان الوصل" من السجلات، وقوامها "ملازم" (تحتفظ الجريدة باسمه) كان ضمن صفوف "الأحفاد"، وكان ينقل للتنظيم -ولجبهة النصرة أيضا- أهم ما يجري ضمن فصيله، وهذا "الملازم" باختصار هو الشخص الذي أدخل مخابرات التنظيم إلى غرف نوم "الأحفاد".
ويحاول أمني التنظيم أن لايغادر في تقريره صغيرة أو كبيرة عن "الأحفاد" إلا ذكرها، ومنها تطرقه لعودة إحدى الكتائب التابعة لـ"الأحفاد" من معركة القصير وجلبها "بيك أب تيوتا أحمر"، وحصولها على "ذخيرة ناعمة وقاذف آر بي جي وقليل من الحشوات"، ثم تعريجه على اقتتال حصل بين "الأحفاد" و"أمناء الرقة"، وصولا إلى حديثه عن الرائد سامر المكلف من قبل ماهر النعيمي (القائد العام) بقيادة "الأحفاد"في الرقة، موضحا أن الرائد سامر "يركب تكسي كيا ريو بيضاء، ومقره ومنامه وتواجده في مؤسسة العمران ويخرج يوميا صباحا ومساء بجولة حول المقرات هو وسائق، وأحيانا مرافق وأحيانا يأتي أبو مازن ويخرجون كلا في سيارته، ويذهبون بجولة حول المقرات".
كما يتعرض التقرير لوصف مقر مؤسسة العمران، مؤكدا أنه يضم أكثر من 100 مقاتل "كلهم من خارج المحافظة، حمويون وهم دائما على أهبة عالية من الاستعداد، حيث يوجد قناصون دائما على سطح المبنى ويوجد مناوبات على سيارات الدوشكا والـ23".
ويواصل الأمني استعراضه لأبرز كتائب "الأحفاد" واحدة واحدة، فيذكر ما تيسر له من معلومات حولها، مهما كانت تلك المعلومات، ومن بينها قوله عن إحدى الكتائب: "ويقال أن هنالك خمر في القبو المتواجد عندهم".
ولا شك أن مثل هذا الترصد الدقيق والأخذ بأي تهمة -ولو كانت من باب "يُقال"_ يشيران إلى بعض أهداف التنظيم، التي ستتضح لاحقا عبر سجلات وفقرات أخرى، وسيكون الميدان مضمار تطبيقها العملي، في سبيل تصفية "الأحفاد" وإخراجهم من الرقة كليا.
ففي سجل عن "المجتمع المدني" يتم ذكر شخصين تكتفي "زمان الوصل" بترميز اسميهما (ر.ع وع.ح)، يتهمهما التنظيم بالإلحاد، وبأنهما مشتركان في صفحة للملحدين، ثم ينتقل الأمني ليقول بعبارة حادة "وهم إعلاميون لجماعة أحفاد إبليس (عوضا عن أحفاد الرسول)".
*النفط والفرقة 17
ولكن الجانب الأكبر من نوايا التنظيم تجاه "الأحفاد" وسبب قتاله لهم يتضح عبر التقرير المفصل الذي رفعه "الملازم" العامل في "الأحفاد" إلى مخابرات التنظيم، باعتباره عميلا لها، حيث يشير إلى "وصول دفعة سلاح كبيرة.. وعودة الرائد ماهر النعيمي من فرنسا وتم تكليفه بالأعمال العسكرية في المنطقة الشرقية مع دعم كافي للسيطرة على آبار النفط وإدارتها والسيطرة بدلا من دولة الإسلام في العراق والشام".
ولعل حديثنا عن النفط ودروه في تأجيج الاقتتال في سرق سوريا، هو بمثابة الكشف عن سر معلن ومذاع، لكن الإشارة الواردة إليه هنا أكثر من حساسة، لأنها بمثابة أول اعتراف صريح وموثق في سجلات مخابرات التنظيم، يتم نشره للعلن.
ليس ذلك كل شيء، إذا كان على مخابرات التنظيم بمبادرة منهم أو بأوامر من القادة الأعلى، أن يسعوا وبحرص واضح لتسجيل مزيد من النقاط السوداء والتهم المشينة في ملف "الأحفاد" (بغض النظر عن مدى صدقية تلك الاتهامات التي ليس للإعلام اختصاص البت فيها)، ومن هنا نرى اسم "الأحفاد" يتكرر أكثر من أي فصيل أخر، حيثما يتم الحديث عن تصرف مخل أخلاقيا أو قانونيا، فهنا فقرة تدور عن علاقة أحد قاد "الأحفاد" بشخص مرتش وعميل لمخابرات النظام، وإلى جانبها فقرة تتحدث عن جاسوس لدى النظام وكان يتولى أمن الجامعة ويطلق الرصاص على المتظاهرين، وهو الآن يتنقل بسيارة عليها شعار "الأحفاد"، إلى فقرة ثالثة تتحدث عن فتاة تكتب في إحدى الصفحات المؤيدة وتسكن في بناية بالرقة، ويسكن معها في نفس البناية عنصران من "الأحفاد" و... و... هكذا دواليك، في سلسلة طويلة من الفقرات التي يحس متفحصها أن اسم "الأحفاد" يحشر في بعضها عنوة، وبلا سبب مقنع.
ويبقى الاتهام الأضخم المدون بحق "الأحفاد" في سجلات مخابرات التنظيم، هو ما يدور حول علاقة عناصر منهم بتهريب ضابط من الفرقة 17 (الرقة)، وبوشاية زميل سلاح لهم في نفس التجمع، ادعى أن هؤلاء هرّبوا بتاريخ 15 أيار 2013 ضابطا من ضباط الفرقة 17 وسلموه لحاجز النظام في "السخنة" لقاء 25 مليون ليرة.
إيثار عبدالحق - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية