بعد مرور عامين على نزوحه، عاد أبو محمد إلى منزله في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة دير الزور، ووضع حدّاً لرحلة الشقاء والتشرّد التي عانى منها طويلاً، عبر تنقّله بين الرقة والحسكة وريف دير الزور.
العم أبو محمد، في منتصف عقده السابع، لم يختلف الحال كثيراً بالنسبة إليه، منذ أن غادر منزله تحت رحمة القصف وجوع الحصار، عمّا آلت إليه الأوضاع في هذه الأيام؛ فأغلب ساكني الحيّ، لا يزالون نازحين ومصيرهم مجهول، وشظايا القذائف، بقيت كما كانت، أمام الأبواب وفوق الأرصفة، وسيّارة "التويوتا" القديمة، احترق هيكلها، وبقي منها للذكرى فقط، لوحةً معدنيةً ذابت أرقامها. لا جديد، سوى بعض الأشجار اليابسة، وقذيفة أخرى، ثقبت سطح منزله المؤلّف من طابقين، بجوار ثقب القذيفة الأولى التي سبّبت نزوحه.
ذاكرة أبو محمد، المليئة بمآسي الحاضر وتفاصيل الماضي، لم تُدرك بعد حقيقة ما جرى في أحياء المدينة التي عرفها وعرفته جيّداً. مدينة الجسور، باتت تحلّق في سمائها غربان سوداء تتنفّس الموت، وطائرات ملوّنة تُلقي هدايا برائحة الجثث العفنة، وعلى الأرض، أعلام سوداء، تعدّ الأنفاس وتتباهى بقطع الرأس، وما بينهما، قذائف عمياء، تصعد عالياً فتخترق الغيوم، وتنزل سريعاً لتوقف عقارب الساعة. أحياء بأكملها تدمّرت، معالم المدينة أصبحت أطلالاً، ظلام الليل يستمرّ في النهار، لم يعد هناك جسرٌ معلّقٌ يتغزّل فيه شعراء المدينة، ويجتذب عشّاقها قبل سُيّاحها. انطفأت الأضواء الملوّنة على جانبي الجسر، واستقرّ ممشاه في أعماق نهر الفرات، وتقطّعت أكباله المتشابكة، وتوقّفت حركة السفن العابرة من تحته بين الضفّتين، وغاب مصوّر الجسر بسترته الزرقاء، وكاميرته التي التقطت آلاف الذكريات، وتدمّر "الجرداق" بجوار الجسر، وبقيت ذكريات زبائنه السّكارى، وخطوات أقدامهم المترنّحة. الحرب القاسية، أبقت فقط على بعض أعمدة الأمل، وكلمات منقوشة على مدخل الجسر، تبتدأ حكايتها بـ "بشّار الأسد"، وتنتهي بطول الجسر الذي يقلّ عن 500 متر، وعمره الذي يقارب عمر العم أبو محمد.
المدينة الصغيرة، أصبحت مدينتين، بينهما حدود واضحة، ولكلّ جانبٍ، رايةٌ خاصّة، و "أخٌ كبيرٌ" لا يملّ مراقبة جنوده. الجبل المطلّ على المدينة، يرسل سلامه لنهرها، عبر مدافعٍ، أصواتها تٌبعثر ما تبقّى من عظام الموتى في قبورهم. الجسد الهزيل، والتقدّم في العمر لشاعر الفرات (الفراتي)، لم يشفع له في النجاة ممّن يُحارب الكلمة، فأخفض مُجبراً يده المرفوعة منذ أعوام، وارتطم بالأرض رأسه دون سيلٍ للدماء. على بعد أمتارٍ من تمثاله، ظهرت الحياة في دير الزور، شبه جزيرة الحويقة، أو حيّ العثمانية، ببساتينه الواسعة، وبنخيله الشاهق. اليوم، غلب الموت الحياة هناك، بساتين من أشواك، ونخيل مائل لم يحتمل هجرة من اعتاد على رؤيتهم، ونسائم النهر باتت جافة، وشارع "المحافظ" الشهير، أنهكته القذائف.
قبور الشهداء باتت تملأ الحديقة وسط المدينة، أشجار الحديقة تقف شامخةً وسط الموت، قذائف الموت تتساقط على قبور الحديقة، أسوار الحديقة ترتفع لحماية أبناءها النائمين، تحترق بعض الأشجار، وتغطّي ذرّات التراب أسماء الشهداء، في انتظار اشراقة شمس يوم جديد.
العم أبو محمد، لم يعد ينطق سوى بكلمات قليلة، ولم يعد يسمع جيداً، يذهب صباح كلّ يوم بخطوات متثاقلة، إلى الحديقة المجاورة لبيته، يجلس بين قبور الشهداء، وينتظر لحظة موته، فالمدينة لم تعد كما كانت، المدينة لن تعود كما كانت، وحده نهر الفرات بقي كما كان.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية