تردّدت كثيراً, قبل أن أباشر في كتابة هذا التحقيق, لأني أعرف ضحاياه جيداً,
وتربطني ببعضهن صلة قربى, وقد خشيت عليهم من التشهير والتنكيل.
وكنت كلما عزمت على لمّ شتات هذا الموضوع الذي يمسنا مباشرة في وجداننا وضميرنا, تروعني نفسي, أن أجانب في اللاشعور -الحيادية- وأنحاز بتلقائية لبنات جنسي, فأسرف في كشف المستور وأفرط في تعرية المحظور..
في مطلق الأحوال.. لم يعد الأمر يحتمل السكوت عنه, فإن ترث أو لا ترث, ليست من وجهة نظري صلب المشكلة.. والأهم السعي إلى إلغاء ثقافة التمييز ضد المرأة التي لا تقتصر على حرمانها من الإرث, وإنما لا تزال حاضرة بقوة في قانون أحوالنا الشخصية, وفي قانون الجنسية, وفي أولويات الإنفاق والتعليم داخل الأسرة, وفي مواقع صنع القرار, وتقلد المناصب القيادية وأخيراً وليس آخراً في قانون الولاية والوصاية والقوامة والإرث, الذي أخطر ما فيه أن تمارس المرأة فيه التمييز ضد المرأة, فتجبر الأم بناتها على التنازل عن حقهن بالإرث لابنها الوحيد ببصمة زوجها الميت
حرمانها يحول دون تمكينها اقتصادياً
فلم تكن مجرد حكاية حرمان امرأة من حقها بالإرث, تلك التي روتها لي أربع أخوات من ريف إدلب, مشفعة بالأوراق والوثائق, بل كانت حقيقة أقرب إلى (المؤامرة) التي حبكت خيوطها السوداء بدقة,وتحت غطاء الشرع والقانون, حيث تمكن عمهنّ (شقيق والدهن المتوفى) من تجريد والدتهن من حقها المشروع بإرث زوجها بعد أن استحصل بمهارة محاميه على قرار قضائي بطلاقها من زوجها -وهو ميت- طلقة بائنة كبرى, حتى تفقد حقها نهائياً بالإرث.
والسؤال الذي ينهض هنا:
كيف طلقت أرملة محمود من زوجها المتوفى, وهل لجثة راقدة في قبرها أن تنطق بعبارة (أنت طالق)?!للأسف هذا ما حدث, وإن طمع العم بإرث زوجة شقيقه جعلت المستحيل ممكناً, والدراهم كالمراهم, لا تشفي من فاقة وعوز فقط, وإنما تحيي العظام وهي رميم وإليكم بداية الحكاية:
فراق حتى الممات
منذ أكثر من عشرين عاماً, تزوجت حنان (الدمشقية) من عدنان (الادلبي) وهو صاحب أكبر ملكية زراعية في محافظته, ورزقت خلال حياتها معه بأربع بنات تزوجن جميعاً وصار لهن الصبيان والبنات..
وعندما أراد عدنان الاستقرار بعد زواج البنات نهائياً في إدلب, لم تستطع حنان مجاراة زوجها في هذا القرار, إذ تعذر عليها استبدال نعومة العيش في العاصمة, بشظف العيش, بريف غير مخدم كما يجب, كما لم تتمكن من النأي عن بناتها اللواتي ما كن ليقطعنها يوماً وهي مقيمة في المدينة, واشتد خلافها مع زوجها حول هذا الأمر, وصعّد أوار الخلاف بينهما أشقاء وشقيقات الزوج, الذين طلبوا منه أن يطلقها, فنزل عند رغبتهم وأقام دعوى تفريق في المحكمة الشرعية بمعرفة محامي شقيقه الأكبر.
غير أن أهل الخير تدخلوا بين الزوجين في الوقت المناسب وأصلحوا ذات البين, فأعاد الزوج زوجته وأعادها إلى عصمته قبل أن تنقضي عدتها, فانضمت إليه ثانية لتعيش معه في قريته بإدلب لأكثر من عام توفي بعدها..
وما إن ووري جثمانه الثرى,وشرعت بناتها بمعاملة حصر الإرث حتى فوجئت (كما صعقت بناتها المفاجأة) أنه قد سقط حقها في إرث زوجها لأنه قد طلقها طلقة بائنة لا ردة أو رجعة فيها!!..
لم تصدق الأرملة, ولا البنات, وبعد طول بحث وتحر واستقصاء, تبين أن العم قد لجأ إلى حيلة قانونية, زينها له محاميه الذي كان يتابع دعوى تفريق شقيقه الأصغر عن زوجته الدمشقية, قبيل أن يرجعها ويعيدها إلى ذمته ثانية, هذه الدعوى التي لم تشطب قصداً من قبل المحامي من قيود المحكمة الشرعية بعد مراجعة الزوج لزوجته وإعادتها إلى ذمته, الأمر الذي مكن المحامي من الاستفادة من هذه الثغرة القانونية, لصالح شقيق الزوج, فتمكن من تجديد دعوى التفريق بصفته وكيلاً لشقيقه المتوفى, وطلق الزوجة من زوجها وهو -ميّت- حتى يسقط حقها كاملاً من الإرث..
بصّموني.. وإني مما فعلوا براء
لم تستوعب أم مجد, كيف ستشارك بناتها شقيقهن الأوحد في إرث أبيهم, فطلبت منهن بعتب أن يتنازلن عن حقهن في هذا الإرث, لشقيقهن الوحيد (بيع شراء) واستخدمت بصمة زوجها الميت على ورقة التنازل, قبل أن يتم الدفن, ولما سألت البنات مستغربة تصرفهن هذا..ولماذا فعلتن ذلك..وما الذي يجبركن?!
قلن لي وكأنه (لا حول لهن ولا قوة) حتى لا تغضب أمنا علينا -كما قالت- إلى يوم الدين, فطرحت عليهن سؤالاً أحرجهن:
وهل ما فعلته أمكن يبرره شرع أو دين?!!
فأطرقن.. وتهربن من الجواب..
بيان وفاة
كان أبو حسيب مغرماً بالأرض, يحولها إلى جنات ونخيل وأعناب, وعندما دنا منه الأجل أوصى صهره (زوج ابنته الوسطى) ألا تتنازل لأخويها عن حصتها, لأنهما سيبيعان الأرض والكرم بأبخس الأسعار ويستقرا كما كانا في المدينة.
غير أن هذه الشقيقة تنازلت بضغط من والدتها المريضة لشقيقيها عن حصتها في إرث أبيها بحجة أن الله قد أنعم على زوجها,وهم الأفقر حالاً..
في حين تعنتت الشقيقة الصغرى,ورفضت التنازل لشقيقيها إلا بعدما أخذت جائزة ترضية من مجوهرات أمها, في حين اعتذرت الشقيقة الأكبر المتزوجة خارجاً, عن الحضور إلى البلد من أجل إتمام معاملة التنازل لشقيقها, فما كان من شقيقها الأصغر سوى أن لجأ (بمشورة والدته) إلى مختار القرية, مخبراً إياه أن شقيقته الكبرى المتزوجة في الخارج, قد توفيت, وهي لذلك لم تحضر مراسم دفن والدها, واستحصل منه -زوراً- على بيان بوفاتها كي ينعم وشقيقه الأكبر بحصتها من إرث والدها.
ومن المضحك المبكي أن يقوم الشقيقان بعد ذلك ببيع الأرض والكرم كما توقع والدهما تماماً ليعودا ويستقرا في المدينة كما كانا, وفي بيوت بالإيجار..
جنّنوها
ما إن دخلت مشفى ابن سينا, حتى هرعت (حسنة) إلي, تعطيني رقم هاتف وعنوان إخوتها الذين أودعوها في هذا المكان منذ عشرين سنة, بعد أن حجروا عليها, لأنها طالبتهم بحقها في تركة أبيها.
قالت لي: أخبريهم بأني لا أريد منهم شيئاً..
لا أرض ولا مال.. فقط لو يخرجوني لأعيش البقية الباقية من عمري بسلام وأمان..
وعندما قمت بزيارة أشقائها في ريف الرقة برفقة صديق, وفاتحتهم برغبة شقيقتهم الكبرى, أجابوني بجفاء: لا تتعبي حالك.. نحن ليس لدينا شقيقة في المشفى بهذا الاسم!!
التسلّط الذكوري والإرث المغتصب
هي أربع حالات, أوردتها نموذجاً عبر هذا السياق لاغتصاب إرث المرأة خارج إطار الشرع والقانون..
والسؤال الذي يبقى بعدها:
لماذا فرطت تلك النساء بحقهن في الإرث, بهذه البساطة.. ولم يلجأن لحماية الشرع والقانون في سبيل الحصول عليه..?
هل لقناعتهن بأن الذكر أحق منهن بهذا الإرث, حتى لو أساء التصرف فيه..
أم لشعورهن بأن هناك من هو أولى بالإنفاق عليهن (كالزوج)..??!
لاحظوا أنه تحت حجة تلاحم الأسرة,وعدم تفتيت الملكية الزراعية,وطاعة المرأة العمياء لأمها وأخيها, اغتصبوا إرثها بالعرف, والعرف هنا كما تقول المحامية فاطمة حمادي أقوى من الشرع والقانون, وتعاليم الدين الحنيف, الذي جعل الإرث حقاً مشروعاً للمرأة, بعد أن حرمت منه أيام الجاهلية.. إذ كان الإرث محصوراً حينها بمن يقاتل دفاعاً عن القبيلة ويحوز الغنيمة ويحمي الديار.
والمرأة كما تقول (حمادي) لم تحرم من هذا الحق فقط, وإنما كانت بمثابة المال المنفوق الذي يورث, فإن مات زوجها, أصبحت جزءاً من ممتلكاته ويحق لأي من أبنائه أن يرثه ويتصرف به كما يشاء.
ولا يحق لها بعد ذلك أن تتزوج إلا بإذن وارثها من أبناء زوجها, وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء الإسلام وأباح للمرأة حقها في الإرث بعد نزول الآية الكريمة:
-(للرجال نصيب مما ترك الوالدان, والأقربون, وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً)-
ونزل قوله تعالى بعد ذلك مبيناً هذا النصيب المفروض في الآية الكريمة:
-(يوصيكم الله في أولادكم..للذكر مثل حظ الانثيين)-
ولم يقصد تعالى الإقلال من شأن المرأة, وإلحاق الظلم بها هنا, وإنما ارتأى ذلك لحكمة يقتضيها استقرار المجتمع, ووضع كل من الرجل والمرأة فيه, فالرجل هو المكلف شرعاً بالإنفاق على زوجته وأولاده, فليس من العدل أن ترث المرأة مثل نصيبه, دون أن تتحمل معه عبء الإنفاق حتى ولو على نفسها, فإذا لم تكن المرأة متزوجة, تقع نفقتها على وليها, وإذا تزوجت فلها من أموال زوجها, ما يعوضها عن النقص فيما ورثته من مال أبيها, وإذا لم تتزوج يقع على أشقائها بعد أبيها عبء نفقتها.
كما أن الشريعة ساوت بين المرأة والرجل بالإرث في بعض الأحوال كما في حالة -أولاد الأم- حيث يكون نصيب الانثى مساوياً تماماً لنصيب الذكر, وعلة هذه الحكمة هنا أن الصلة التي تجمع بين الوارثة والوارث -الأخوة- لأم ترجع إلى عاطفة التراحم الناشئة عن صلة الأمومة وحدها..
ومن أسباب الإرث للمرأة..
الزواج الصحيح.. القرابة أو النسب ترث به المرأة بصفتها من ذوات الفروض.. والعصوبة السببية, وذوات العصبات بالغير, وذوات الأرحام..
ومن شروط الإرث: موت المورث ميتة حقيقية, أو اعتباره ميتاً بحكم القاضي, وإذا اختلفت الوارثات حول وفاة مورثهن,رفعت إحداهن دعوى أمام القضاء, وحكم القاضي بموته من تاريخ معين بناء على البينة المثبتة, لذلك, فترث وريثاته ابتداء من ذلك الوقت..
ومثل ذلك المفقود أو الغائب أو الأسير..
كما من شروط الإرث, شرط لا بد من توفره في الوارثة وهو تحقق حياتها وقت وفاة مورثها حقيقة بالمشاهدة والبينة والأدلة في مجلس القضاء.
كما أنها لا تستحق الميراث بحياتها التقديرية كما لو ولدت طفلة ميته بعد وفاة والدها, فإنها لا تستحق الإرث من أبيها لاحتمال أن تكون حية في بطن أمها وقت وفاة المورث..
والكارثة الحقيقية أن يلجأ البعض هنا -إلى قتل ما في الأرحام- من الإناث, منعاً لإرثهن, وحتى لا يشاركن أبناء الزوج مستقبلاً في اقتسام التركة..
وقد حدث هذا, عندما لجأ ابن الزوجة الأولى إلى إجهاض زوجة أبيه الثانية, وهو يعلم أن ما في بطنها أخت له, ومن حقها أن ترث من مال والدها المتوفى بمثل ما من حقه أن يرث, ولكنه الطمع والجشع,وقبل أن تطالب المرأة بحقها من التركة يجب تنفيذ خمسة بنود أولها تجهيز المورث من المال المتروك من غير قلة ولا إسراف وإيفاء ما توجب في ذمة الميت من ديون, وفك المرتهن من التركة, وتنفيذ ما أوصى به الميت من ثلث الباقي وذلك في وصية اختيارية من بعد وصية يوصي بها أو دين, ورفع كلفة حجة للميت إن لم يكن حاجاً, ومن ثم توزيع ما بقي من التركة وفقاً للكتاب الكريم والسنة الشريفة والإجماع.
ويستغرب ميشيل خياط زميلنا الصحفي في دار البعث, كيف تمنع أعراف وتقاليد تعيش وتعشش في كثير من القرى حقاً صاغته الشرائع السماوية والقوانين المدنية, ويرى في ترك البنات دون موطئ قدم في قريتهم وأداً لكفاح المرأة ونضالها الطويل وينادي بتعديل القوانين وإصدار تشريعات جديدة تمنع هذا الوأد, وتحدد شروطاً صارمة للسجل العقاري بهذا الشأن.
ويقول: دون مواربة.. إن عملية حرمان المرأة من الإرث هي عملياً كالوأد في الجاهلية, بل وأفظع من القتل, لأننا بذلك نجرد المرأة من مواطنيتها وهويتها, ونلغي خضوعها للقانون السوري الذي أقر لها هذا الحق.
نحتاج طب إسعاف وطوارئ
والمشكلة من وجهة نظري ليس في اعتقاد الرجل أن حرمان المرأة من الإرث -حالة طبيعية- ولكن في وجود قناعة مسبقة لدى المرأة نفسها أنها تعيش واقعها الطبيعي, ما يعني في النتيجة أن معالجة الأمر لا تكون بجراحة تجميلية, وإنما تحتاج بالتأكيد إلى طب إسعاف وطوارئ..
فلو سلمنا جدلاً أن أكثر من 50% من سكان الريف نساء, وأن نسبة مساهمة الريفيات بقوة العمل المنظورة 28.4% ندرك حجم الجور والظلم اللذين يلحقان بالمرأة التي تعمل ولا تملك, وتصنف غير ناشطة اقتصادياً.
فاعتدال مثلاً, رغم أنها ساهمت بأكثر من نصف ثمن بيت الأسرة من ريع منتوجاتها من ألبان وأجبان ومواد غذائية مصنعة منزلياً, سجل البيت باسم زوجها في الدوائر العقارية, وبقناعتها إن هذا لا يهم لأنه في النتيجة كله للأولاد.. ولكن السؤال:
ماذا لو طلقها زوجها تعسفياً, هل يبقى حقها قائماً في هذا البيت?!..
إذن الملكية في الأرياف محصورة -بالذكور- بقوة العرف والتقاليد, وليس بقوة الشرع والقانون, ما يساهم كما يقول ناصر غزالي في صناعة نساء فقيرات غير متمكنات اقتصادياً, لأنهن غير قادرات على الوصول إلى الموارد والتحكم بها والسيطرة عليها.
والسبب الحقيقي الذي جعل العرف والتقاليد أقوى حجة من الشرع والقانون هنا, هو انتشار الأمية بأنماطها المعروفة في ريفنا (الثقافية - الاجتماعية - الاقتصادية - القانونية) ما ساهم في تكريس هذا العرف في الأرياف..
فقد بلغت نسبة انتشار الأمية بين النساء في الأرياف 25% وبين الذكور 9% أي ما يقارب ثلاثة أضعاف انتشارها بين الشباب, وفي ذلك ما يساهم -كما تقول خولة دنيا- في التسلط الذكوري وهيمنته على مستقبل ومصير المرأة بما في ذلك إرثها, واعتبارها المخلوق الأضعف الذي لا يحق له أن يتملك, حتى وإن كان يعمل.
فعملها للأسف لا يحتسب ضمن الأنشطة الاقتصادية التي تساهم في الدخل القومي, ويصنف من قبل الجهات الرسمية بالنشاط غير المنظور, والذي يشكل امتداداً لدورها الطبيعي كزوجة وأم.
ما يعني أخيرا -كما يقول عطارد حيدر- إننا بحاجة إلى إيجاد استراتيجيات عمل تبنى على قواعد رقمية حقيقية من الأدنى وللأعلى وقابلة للتطبيق والتنفيذ.
كما يفرض الحاجة إلى تعميم ونشر ثقافة حقوق الإنسان بين كافة شرائح المجتمع, والنساء بشكل خاص, كي يعرفن حقوقهن ويدافعن عنها نداً لند, وليس الند أمام (دون).
فالمرأة مشتقة لغة من فعل مرأ..ومصدرها (المروءة) وتعني كمال الإنسانية...
وحتى تتكامل أدوار الحياة, في الختام لا بد من تمكين المرأة اقتصادياً بدءاً من حصولها على حقها المشروع بإرثها, وانتهاء بكل ما يلغي التمييز بينها وبين الذكر, فقد أكد القرآن الكريم مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق والواجبات..
-(يا أيها الذين آمنوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)-
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية