عشاق الياسمين كثيرون , وأنا واحدة منهم , تعلقت بتلك الزهرة منذ صغر سني فقد تربيت في بيت كان الياسمينة فيه فرد من أفراد العائلة , تسقيها جدتي من فضل قهوتها , ويجالسها جدي في عصر كل يوم يقرآن القرآن معا , منها الظلال ومنه الصوت الحسن , وتتفنن أمي في تشكيل زهراتها لتصنع من باقات وعقود , وفي الليل ينثر أبي بعناية زهراتها البيضاء فوق البركة ليصبح في حوشنا نجوم في البركة ونجوم في السماء .
ويصبح المكان كأنه من عالم الخيال ..
وعندما كبرت , كانت الياسمينة في خاطري شيء ثابت كمعنى للحب والحياة , وشاء الله لي أن أغترب , طوفت في أرض الله الواسعة و شغلت بالأسرة والأولاد , وعندما كنت أخلو بنفسي كان منظر عريشة ياسمين هو شعار الراحة والحب , أتأملها في عيني فكري بعد أن غابت عن عيني نظري .
وعندما استقر بنا المقام وقررنا أن نتوقف عن الترحال في بيت اجتهد زوجي أن يكون بيت الأحلام , وحرص على أن يحقق فيه كل فرد من أفراد العائلة مناه ,
وعندما جاء دوري عن ما أتمناه قلت :
-لا أريد ألا الياسمين .
-لو طلبت سجادا فاخر , أو تحف غالية لكان أهون علي , كنت سأتدبر ثمنه , واحقق لك مناك , ولكن الياسمين كائن حي , وحياته ليست بيدي .
-وفر عليك مالك وأحضر لي ياسمينة واحدة , أستظل بظلها ,استمتع بعبق وجمال زهراتها .
وضحك وضحك الأولاد وهم يتغامزون .
وظل زوجي بعد ذلك يكرر سؤاله , هل يعيش الياسمين في هذا الحر الشديد ؟
ولكني لم يكن عندي جوابا لسؤاله , وكان صمتي هو دليل على اصراري , وفهم زوجي الرسالة .
كان هناك في أعماق ذاتي صورة لما يجب أن يكون عليه المسكن الجيد الي يضم في جنباته أسرة سعيدة .. وكان الياسمين جزء أساسي منه .
وكان ما طلبت , احضر زوجي أكثر من غرسة ياسمين , لكي يبرهن لي عن اجتهاده في تحقيق ما أريد , وزرع في ركن من حديقة البيت الواسعة غرسة منها و قال لي :
-ساسقف لك الحديقة بعرائش الياسمين من كل صوب
واشتغل أفراد الأسرة كلهم بتنفيذ توصيات الخبير الزراعي الذي جلبه زوجي للعناية بالياسمين , وكتب الله للغرسات الحياة , وصار الحلم يكبر أمام عيني , وبدأت تباشير الياسمين في انجاز وعودها , فهذه الأغصان تنمو وتمتد , وتلك الوريقات تمد رأسها مححية , وصرت أحلم بالجلوس في ظلال عريشة ياسمينة أتقاسم معها قهوة الصباح , وأتخيل الظل الوراف وعبق الياسمين يملأ المكان وأنا ارتل آي القرآن , ووعدت بناتي بأطواق ياسمين يحملونها هدايا حب للجارات والصديقات ,
كان الياسمينة بالنسبة لي شعار وطن , وذكريات طفولة , وأنا أشعر اليوم أن غربتي ستصبح أهون ..
ولم يطل انتظاري كثيرا , وجاء ذلك اليوم الموعود , وسمعت صوت زوجي ينادي على , فأسرعت .
- كان يضم كفه المقبوض على شيء .
مد قبطته وهو يقول :
- احذري
قلت : ياسمين !!!
كان زوجي مزهوا , بتحقيق وعده لي .
فتحت قبضته عنوة ورحت أنظر , أشم , ألمس بيدي .
ودون أن أدري صحت : ما هذا .. ؟؟
وجريت إلى الحديقة لأعاين بنفسي قد تكون قبضة زوجي هي السبب , ..
كانت زهرات بيضاء صغيره تتناثر على قمة الغصن الممتد فوق العريشة المعدنية التي نصبناها خصيصا له , وقد التفت بتلاتها حول نفسها وكأنها فتاة خجلت من تشوه في خلقتها , أمسكتها بيدي لم تكن حريرية الملمس كما هي عهدي بالياسمين أن يكون , قربتها لأنفي فما شعرت بزخم العطر الذي اعتدته .
قلبت نظري بين الياسمينة اليافعة , وزهراتها المشوهة , وبين زوجي الذي كان يراقب بزهول ما يحدث لي , وهو لايدري ما هي المشكلة ؟ ولا كيف يمكنه أن يحلها؟
تسربت الياسمينات المشوهة من يدي , وتسربت دمعات حرى من عينى ,
سألني زوجي بألم :
ما المشكلة أليس هذا هو الياسمين الذي تحلمين به .
قلت له : بلي حبيبي أنه ياسمين مغترب .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية