في عالم بتنا نختلف فيه على كثير من الأمور، حتى على لون الماء وطعم الملح، رغم كونها من مسلمات الحياة وأبجديات المنطق، يطالعنا مصطلح غدا محل شد وجذب: "دمشق أموية". هذا التعبير الذي يفتخر به البعض جهلًا لربطه بطائفة واحدة لظنهم أنه حكر عليهم، ويشتمه آخرون تحت عناوين شتى لا تخلو من حقد زرع في قلب من كان يزور مقبرة باب الصغير ليفرغ ما به من ضغينة على رفاة قوم مضوا وخطوا مع الشمس أسماءهم.
دمشق: ازدهار حضاري لا طائفي
حين يُقال "الجامع الأموي"، أو تُوصف دمشق بأنها "أموية الجذور"، لا يعني ذلك طغيان مذهب، ولا قيد انتماء ديني، بل هو نطق مجازي لحالة نادرة من الازدهار الحضاري. الأمويون لم يكونوا مشروع طائفة، بل مشروع دولة؛ دولة بدأت من قلب الشام لا لأنها مهووسة بالدين، بل لأنها كانت الأنضج سياسيًا، والأقدر إداريًا، والأكثر انفتاحًا على تنوّعها السكاني.
فـ"أموية" سوريا لا تعني أن البلاد حكر على مذهب أو قومية، بل إنها ورثت لحظة مجد، حين تحوّلت دمشق من مدينة جميلة إلى عاصمة للشرق والغرب، وقبلها جاز شعاعها المدى، إلى نقطة التقاء للثقافات، ومنارة كانت تنافس القسطنطينية نفسها في الرقي والعمارة والتنظيم، بل وبزّتها في روعة إشبيلية وجمال قرطبة وحدائق دمشق.
التعايش في الدولة الأموية: المسيحيون جزء من النسيج
في قلب تلك الدولة، لم تُتوقف الأجراس، ولم تُطمس الصلبان، بل قُدمت الكنائس جنب المساجد كجزء من نسيج الوطن. فقد كان للمسيحيين مكانٌ في دواوين الدولة، وموضع ثقة في تدبير شؤونها. وسرجون بن منصور، مستشار معاوية المسيحي، لم يكن استثناءً بل نموذجًا، والتاريخ قد يغيب في غمرة الأحداث، لكن لا يمكن تزوير حقائقه.
الأموية التي نراها اليوم في أحجار الجامع، في أعمدة المباني، وفي فسيفساء القباب، هي أموية الفن، واللغة، والهندسة، والتعايش؛ هي أموية بمسلميها ومسيحييها، بعربها وكردها، وكل من خط سطرًا في سفر المجد الغابر. فهي مرحلة بلغت فيها الهوية السورية نضجها الأول، حين لم يكن أحد يسأل الآخر: من أنت؟ بل: ماذا تُجيد؟ وماذا تُضيف؟
اتساع الدولة الأموية وتنوعها: دليل على التسامح
من قال إن الأمويين اختُصروا في مذهب فقد ارتكب خطأً مركبًا، فقد كانت دولة امتد سلطانها من السند إلى بواتييه على امتداد 13 مليون كيلومتر مربع، أي أن دمشق كانت تحكم سبعين ضعفًا من مساحة سوريا الإدارية اليوم، وبالتالي ليس هناك اختزال وظلم تاريخي لدمشق التي تمتد إلى ثلاثة آلاف عام مضت عندما تُكنّى بالأموية. فكنية الأشخاص تنسب لأعظم ما قاموا به، وهل هناك أعظم من هذا الامتداد الحضاري المترامي؟
تخيل يرعاك الله بصوت البجيرمي أنها كانت تحكم شعوبًا لا تُحصى، بلغات وديانات شتى. فلو كانت أمويّتهم دينية صرفة، لما احتملت هذا التنوع، ولما ازدهرت كل تلك المدن التي ما زال فيها إلى اليوم مسيحيون عرب يقرعون أجراسهم على وقع تاريخٍ لم يخذلهم يومًا ولن يخذلهم لأننا أحفاد من علمونا أن الوطن كبير ويتسع للجميع.
دمشق الأموية في الشعر والتاريخ
لم يكن إطلاق سمة الأموية على دمشق حدثًا طارئًا أو مرتبطًا بمرحلتنا هذه، فقد كانت جزءًا من نصوص شعرية ومقالات نثرية لأعظم الشعراء عبر التاريخ الحديث والقديم. اسألوا نزار لماذا صاغتها حروفه قصيدًا بأمويتها، سيجيبكم لأنها احتضنت عصرًا ذهبيًا تجلى فيه نضج الدولة الإسلامية المبكر، بملامح شامية الطابع، عربية اللسان، إنسانية الروح، بعيدة عن التعصب والتطرف، متنوعة كتنوع زخرفات مبانيها وعمرانها.
لذلك، فحين نقول "أموي"، فإننا لا نحمل وصمة طائفية، بل نشير إلى أول تجربة إمبراطورية عربية موحَّدة، مركزها دمشق، وروحها التسامح، ووسيلتها العقل والإدارة، لا الإقصاء والإبحار في موج المذهبية الذي لطالما أغرق من خالط عبابه صلفًا وجهلًا.
نعم، "أموية سوريا" ليست راية فئة، بل ذكرى مرحلة لم تُقصِ أحدًا، وكان فيها للجميع نصيب من المجد.
دعوة إلى الفخر المشترك
فلا تسيئوا لعصر ذهبي حضاري إنساني بعناوين دينية ضيقة، فلا يحق للسني أن يطلق الوسم تفاخرًا بمذهبه، ولا يحق لغيرهم إهانة رموز حضارية لم يكن عمر بن عبد العزيز أوحدها. ولنفتخر جميعًا بمن جعلوا من دمشق شامة على جبهة المجد.
وإن كانت هناك أخطاء فلا أحد معصوم، فلنتركها جانبًا، وإن كانت لا يمكن أن تقارن بما أنجزوه مجدًا وأدبًا وفنًا وتسامحًا، لأننا وبعموم إدراك الكثير منا أقل بكثير من أن نقيّم من قال فيهم أحمد شوقي:
بنو أُمَيَّةَ لِلأَنباءِ ما فَتَحوا
وَلِلأَحاديثِ ما سادوا وَما دانوا
كانوا مُلوكاً سَريرُ الشَرقِ تحتَهُمُ
فَهَل سَأَلتَ سَريرَ الغَربِ ما كانوا
عالينَ كَالشَمسِ في أَطرافِ دَولَتِها
في كُلِّ ناحِيَةٍ مُلكٌ وَسُلطانُ
يا وَيحَ قَلبِيَ مَهما اِنتابَ أَرسُمَهُم
سَرى بِهِ الهَمُّ أَو عادتهُ أَشجانُ
لَولا دِمَشقُ لَما كانَت طُلَيطِلَةٌ
وَلا زَهَت بِبَني العَبّاسِ بَغدانُ
بيضُ الأَسِرَّةِ باقٍ فيهُمُ صَيَدٌ
مِن عَبدِ شَمسٍ وَإِن لَم تَبقَ تيجانُ
يا فِتيَةَ الشامِ شُكراً لا اِنقِضاءَ لَهُ
لَو أَنَّ إِحسانَكُم يَجزيهِ شُكرانُ
شيدوا لَها المُلكَ وَاِبنوا رُكنَ دَولَتِها
فَالمُلكُ غَرسٌ وَتَجديدٌ وَبُنيانُ
المُلكُ أَن تَعملوا ما اِستَطعتُمو عَمَلاً
وَأَن يَبينَ عَلى الأَعمالِ إِتقانُ
المُلكُ أَن تُخرَجَ الأَموالُ ناشِطَةً
لِمَطلَبٍ فيهِ إِصلاحٌ وَعُمرانُ
المُلكُ تَحتَ لِسانٍ حَولَهُ أَدَبٌ
وَتَحتَ عَقلٍ عَلى جَنبَيهِ عِرفانُ
المُلكُ أَن تَتَلافَوا في هَوى وَطَنٍ
تَفَرَّقَت فيهِ أَجناسٌ وَأَديانُ
محمد رافع أبوحوى - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية