في وطن أُنهك بالصراخ والخراب وحراب العابثين، صار الوجع جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية، جرحًا مفتوحًا لا يتوقف عن النزف، ينتقل بين الجامع والكنيسة. فالدم واحد لن يعترف بدين الضحية عندما يسيل، وكأن بين المآذن المجروحة والأجراس المهدّمة نداء المعذبين وبوح الألم ووحدة المعاناة.
نعم، وصل المجرمون إلى قلب دمشق، إلى كنيسة الدويلعة، تلك التي بقيت شاهدة على صلوات الخائفين، وأجراس الأمل ببناء دولة للجميع.
استهداف كنيسة الدويلعة لم يكن صدفة، بل رسالة مملوءة بالحقد من أعداء الشعب، أولئك الذين لا يحتملون أن يبقى هناك صوت نقي، أو قلب مخلص، وهمهم الوحيد هو تدمير كل خطوة بالاتجاه الصحيح تقوم بها هذه الدولة الوليدة، المحاطة بسور الصين العظيم من المؤامرات والمكائد، ووأد الطموح في رحم سوريا التي أبلج نهارها.
نعم، هذه الأيادي القذرة وأصحابها يريدون أن يُعاقبوا المسيحيين لأنهم، في غالبيتهم، لم ينجرّوا وراء الفتنة، بل ظلّوا في صف الوطن، إيمانًا بأن الخلاص لا يكون إلا بوحدة الدم والبيت، فجدهم فارس الخوري أبو الوطنية وأستاذها.
أي مجرم ذلك الذي ضَنَّ على السوريين المتعبين ماديًا أن يفرحوا برفع الرواتب، ليبكيهم بإسلامهم قبل مسيحييهم بجريمة قذرة تحكيها المآذن قبل الأجراس؟
وتبقى الحقيقة الأعمق، التي تُشعل العين دمعًا اليوم، أن كثيرًا من المسيحيين السوريين لم يصمتوا على الظلم، بل كان جزء منهم في الصفوف الأولى للثورة، ولم ينخرطوا في عصابات الأسد لأنهم يؤمنون أن الوطن لا يُبنى بالسكوت عن الاستبداد، بل بالكرامة.
ميشيل كيلو، المسيحي الذي حمل في قلبه نورًا للعقل السوري، وقف بوجه الطغيان دون أن يساوم، فدفع الثمن سجنًا ونفيًا ومات يهتف بقصة العصفور والشجرة. جورج صبرا، المناضل الذي لم تُغيّره رئاسة المجلس الوطني ولا الضغوط الدولية، بل بقي ثابتًا على مبدأ أن الثورة يجب أن تبقى ثورة حرية وعدالة. عبد الأحد اسطيفو من القامشلي، كان صوته يعلو من أجل وحدة الشعب، مؤمنًا أن الثورة لا تُختزل بطائفة، بل تمتد إلى إنسانية الشعب بأكمله. وكان هناك من لا نعرف أسماءهم، خدموا الثورة بلا ضجيج، خبأوا الهاربين، طببوا الجرحى، وكتبوا منشورات الحرية على جدران الكنائس.
كل هؤلاء، من المسيحيين، أثبتوا أن الثورة لم تكن حكرًا على طائفة، بل نداءً من القلب لكل من لم يبع ضميره. فدم باسل شحادة، المعمد بقدسية سوريته، سيبقى عنوانًا لا يقبل الجدل أن الدم واحد، وأن نزفه لن يزيدنا إلا إصرارًا على الطريق، وفاءً لأرواحهم.
وحتى أولئك الذين لم يؤيدوا الثورة، لم يقفوا في وجهها، بل اختاروا الصمت النبيل، ورفعوا الصلوات من أجل ألا يغرق الوطن أكثر، ومن أجل ألا تُحرق كنيسة ولا يُقصف جامع.
لقد أخطأ التقدير أصحاب القلوب السوداء ومنفذو مشاريع الجريمة وهدم الأوطان. ففي سوريا، الكنيسة لا تنهار، بل تركع قليلًا… ثم تنهض. وفي الدويلعة، الجرس لا يموت، بل يعود فيقرع للسلام بعد كل انفجار، يعانق صوت التكبير في مسجد بني أمية لنزداد صلابة وإيمانًا.
عهد الدم الواحد
سيبقى الدم المسيحي يختلط بالدم المسلم على تراب هذا الوطن، وسيبقى اسم سوريا مكتوبًا بالدمع والذهب… لا يُمحيه تفجير، ولا يُبدّده حقد. نعم، هو جرحي كمسلم قبل نزف جروح الضحايا.
تعازينا لا تكفي، بل هو عهد أن نحمي بدمائنا عهدتنا العمرية وإخوة بُنيت عبر قديمات الزمن، فكان نتاجها سوريا العظيمة بكل أطيافها.
المهندس محمد أبو حوى - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية