أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

زفرات من بلدي ... جيداء محمد



أكثر من عامٍ ثقيل مضى على تهجيري من بيتي ..كما غيري من أبناء وطني على امتداد الوجع والجرح النازف ..

أيام مرت على الترحال من بيتٍ إلى بيت ومن حيٍّ إلى آخر .. وفي بعض الأحيان من مدينة إلى أخرى ..

إخواننا أهل فلسطين يحلمون بالعودة إلى بلادهم .. ويلوِّحون بمفاتيح العودة إلى بيوتهم من أصقاع الأرض .. ويأملون بالرجوع إليها رغم بعدهم عنها ما يبعدون .. ونحن في سوريا نحلم بالعودة إلى بيوت وأحياء هجرناها قريبةٍ منا وأحياناً منا على مرمى حجر.. هذا اللهم إن كان قد بقي هناك بيتٌ أو بقايا بيت تتمثَّل بأرضٍ وسقفٍ وجدارين ..

فقط في بلدي .. أصبح النزوح من المسكن والتهجير من البلد هو الطبيعي .. بينما الإقامة في البيت .. والاستقرار فيه هو الأمر الشاذ... مع انتظار الموت القادم في أي لحظة ولا ندري بأي شكل يكون ..

فقط في بلدي .. يكون انقطاع التيار الكهربائي لساعاتٍ طويلة هو المألوف ، والمكوث في ظلمةٍ .. أحياناً تأتي إلينا كزائرة .. خفيفة الظل خجولة تعاودنا على استحياء بعد غياب .. وأحياناً أخرى تكاد تصير مقيمة بيننا وأحد أفراد أسرتنا .. نألفها وتألفنا ..هو الأمر الواقع .. أما أن تدب الحياة في الأسلاك الكهربائية كما غيرنا من أهل الأرض دون انقطاع .. وأن يشعشع النور في أرجاء البيت .. هو الأمر المستغرب ..

فقط في بلدي .. يكون انقطاع المياه عنا وحرماننا منها لأيامٍ طويلة هو العادة .. وقدومها بعد غياب وجريانها في الأنابيب ومن ثمَّ انسيابها في الصنابير أمرٌ يدعو إلى التساؤل ..

في بلدي الجريح غدا تشغيل الغسالات الآلية ترفٌ زائد ورفاهية لا نستحقها .. لانقطاع أحد الضيفين على الأقل عن البيت .. الماء أو الكهرباء .. وكأنهما متحاربان متخاصمان وقد أقسما وتعاهدا على ألا يجتمعا في بيتٍ واحد ..

في بلدي سماؤنا في معظم الأوقات نظيفة من ذبذبات الجوال إلا ما رحم ربي .... أما عن الهواتف الأرضية أصبحت قطع أثاث تزين زوايا البيت لا حياة فيها ولا رنين.... و"الانترنت" أمنية غالية ...وإن كانت .. فهي كمن يجر الفيل بخيط واهن، .. والأمل في غير ذلك ضرب من الخيال، أو كمن يغني في طاحون.... أو كمن يطلب امتلاك الشمس في ليلة غير مقمرة...

ولكن أكثر ما يبكي العين ويدمي القلب في وطني .. أن يصبح حلم المرء فيه أن تقام له – حين يموت - جنازة يُصلـَّى عليها في بيتٍ من بيوت الله كغيره من الأموات ..

حلمه .. أن يشيِّعه إلى مثواه الأخير بعضٌ ممن تبقى من أهله وأصدقائه ومعارفه وطالبي الأجر ....!!! دون إمكانية تحولهم في لحظات إلى ضحايا قاتل غاشم ...

حلم السوري اليوم .. أن يدفن محاطاً بأقارب يدعون له بالثبات عند ردِّ السؤال.. ويستأنس بأحبائه من أهل الدنيا وهم يتلون عند قبره بعضاً من آيات الله قبل أن يفارقوه .. غير خائفين ولا مذعورين من قذيفة عمياء قد تداهمهم في الحال ..

حلم السوري اليوم .. أن تزرع فوق ضريحه شاخصة كتب عليه : هنا مرقد فلان بن فلان .. أو فلانة بنت فلان .. لا أن يدفن في مقابر جماعية حفرت على عجل .. زرع في أحد أطرافها لوحة كتب عليها بخط يد مذعورة : هذا مدفن جماعي لمجهولي الهوية ..

حلمه .. أن يتقبـَّل أهل بيته التعازي برحيله ويجتمعوا للدعاء له ..

ولكن .. وقبل هذا وذاك .. فإن حلم المواطن السوري هو أن يموت ميتةً سوية ويُتوفَّى وفاةً طبيعية .. لا أن يموت ذبحاً كما تُذبح النعاج .. أو قنصاً كما تُقنص الطيور .. أو فتكاً تحت التعذيب كما تفتِك الوحوش بفريستها قبل أكلها ..

آآآآآه .. هذه هي الحال في بلدي .. حيث تكثر فيه عبارات " ابتسم فأنت في سوريا "

ولكن .. ومع كل هذا الألم والوجع .. أدمنت عشقك يا وطني .. عشق ترابك .. هوى هوائك .. ليس لي عنك أرضاً ولا وطنا بديلا .. أنت قدري الغالي من عند الله .. فلا حياة لي إلا على ثراك .. ولا خيار آخر لي أبداً .. ولن يكون ...

-----------
 كاتبة من حمص

(96)    هل أعجبتك المقالة (93)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي