أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أيُّ سوريا تعكسها العملة الجديدة؟ أسئلة في الرمز والهوية

ليست العملة ورقًا محايدًا كما قد يبدو في ظاهرها، ولا مجرّد أداة تبادل تُقاس قيمتها بما تشتريه في السوق فحسب، بل هي في أحد أعمق أبعادها خطابٌ صامتٌ للدولة، ورسالة مركّبة تُوجَّه إلى الداخل قبل الخارج، تقول فيها الدولة كيف ترى نفسها، وكيف تفهم تاريخها، وأي صورة تريد أن تستقر في وعي مواطنيها عنها. ولهذا، فإن النظر إلى أي عملة جديدة لا ينبغي أن يقتصر على جماليات التصميم أو حداثة الطباعة، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة الرمز، ودلالاته، وما يستحضره أو يتجاوزه من الذاكرة والإنسان والتاريخ.

ومع ذلك، لا بد من تثبيت المعنى الأهم قبل كل شيء: نسأل الله أن تكون قيمة هذه العملة في الاقتصاد السوري، وفي حياة الناس اليومية، وفي قدرتها الشرائية، خيرًا من قيمتها الفنية والرمزية. فالتاريخ القريب والبعيد علّمنا أن العملات لا تُنقذ بالتصميم، وأن الزخرفة لا تُرمم اقتصادًا، وأن الامتحان الحقيقي لأي نقد هو في أثره المعيشي لا في صورته البصرية. غير أن هذا الإدراك الواقعي لا يُلغي حقنا في التفكير النقدي في الرمز، لأن الرمز – حتى في أكثر لحظات الانهيار الاقتصادي – يبقى عنصرًا فاعلًا في تشكيل الوعي العام.

ما يلفت النظر في تصميم العملة الجديدة هو اعتمادها شبه الكامل على رموز طبيعية عامة: نباتات، ثمار، محاصيل. وهي رموز جميلة في ذاتها، لا تُستفزّ أحدًا، ولا تُحرج خطابًا، ولا تفتح أسئلة صدامية، ويمكن ان تكون عملة لدول عدة تحمل هذه المشتركات الطبيعية. غير أن هذا “الحياد الجمالي” يطرح سؤالًا أعمق: هل هو تبسيط مقصود لطمأنة الجميع، أم افتقار إلى رؤية رمزية ناضجة، أم ميل واعٍ أو غير واعٍ إلى تحييد المعنى الحضاري في أحد أهم رموز السيادة؟

فالطبيعة، حين تُفصل عن الإنسان، تصبح مشهدًا صامتًا. والزيتون والقمح والقطن والتوت، رغم حضورها في الأرض السورية، ليست رموزًا سورية خالصة، ولا تشكّل مركزية حضارية خاصة بسوريا، بل تنتشر في جغرافيات عديدة، وبعضها لم تكن سوريا أصل نشأته التاريخية. وعند هذه النقطة، يصبح السؤال مشروعًا: على أي أساس يتم تقزيم الرمز السوري في العملة، وتحويله من رمز حضاري مركزي إلى علامة طبيعية عامة لا تقول الكثير عن الإنسان الذي صنع التاريخ على هذه الأرض؟

المفارقة أن المشكلة ليست في اختيار الطبيعة، بل في تغييب الإنسان. فالإنسان السوري هنا غائب، لا بوصفه صورة، بل بوصفه فاعلًا تاريخيًا. وكأن العملة تقول: هذه أرض خصبة، لكنها لا تقول من زرعها، ولا من نسج قماشها، ولا من حرثها، ولا من حوّل خامها إلى حضارة. في حين أن التاريخ – كما يعلّمنا ابن خلدون – ليس عمرانًا ماديًا فحسب، بل فعل إنساني متراكم، تُنتجه الأيدي والعقول والقيم معًا.

كان يمكن للرمز أن يتجاوز النبات إلى ما هو أعمق دون أن يكون صداميًا أو إيديولوجيًا. كان يمكن، مثلًا، أن يُستدعى حائك نول البروكار اغلى واقدم اقمشة العالم مع التوت، لا بوصفه قماشًا فخمًا، بل بوصفه ذاكرة صناعة إنسانية ضاربة في التاريخ، حملت اسم سوريا إلى قصور العالم. وكان يمكن أن يظهر الفلاح السوري لا القمح المجرد، وهو يحمل منجله الأول في التاريخ، شاهدًا على حضارة الزراعة ودور سوريا فيها انسانيا. وكان يمكن لكافة الرموز المستخدمة أن تربط بين اليد والعمل، بين الإنسان والأرض، بين التاريخ والمعيش اليومي، دون الحاجة إلى شعارات أو خطابات مباشرة.

في السابق، ربطت العملة السورية رموزها بالآثار، وهذا – على ما فيه من ملاحظات – كان يقول بوضوح: هنا حضارة. أما اليوم، فكان يمكن الانتقال خطوة أبعد، من الحجر إلى الإنسان، من الأثر الصامت إلى الفعل الحي، من الماضي المجمَّد إلى التاريخ المتحرك. فالحضارات لا تقوم بالآثار وحدها، بل بالناس الذين بنوها، وحموها، وورّثوها، ثم دفعوا أثمان بقائها.

ليست هذه قراءة متحيزة، ولا حكمًا نهائيًا، بل محاولة هادئة لطرح أسئلة ضرورية حول معنى الرمز في زمن مأزوم حضاريا. فالعملة، في النهاية، مرآة. وإذا عكست حيادًا مفرطًا، أو خوفًا من المعنى، أو تبسيطًا يُفرغ الرمز من مركزه الإنساني، فإن من حقنا أن نتساءل لا أن نُتهم.
نعم، الأولوية القصوى أن تستعيد العملة قيمتها الاقتصادية، وأن تعود أداة استقرار لا عبئًا إضافيًا على الناس. لكن بالتوازي، لا يقل أهمية أن تُستعاد قيمتها الرمزية بوصفها حاملة لهوية، لا مجرد ورق ملوّن. فسوريا ليست مشهدًا طبيعيًا فقط، ولا أرضًا صامتة، بل تجربة إنسانية كثيفة، وحين يغيب الإنسان عن العملة، يبقى السؤال مفتوحًا: أي صورة نريد أن نثبتها في الوعي، وأي تاريخ نختار أن نرويه بصمت؟

أيمن قاسم الرفاعي - زمان الوصل
(12)    هل أعجبتك المقالة (13)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي