ربما لم تكن البشرية أفضل حالاً قبل مئة أو ألف عام، فالتاريخ المدوّن يعج بأخبار الجبّارين والمجرمين والقتلة والمنحرفين منذ بدء الخليقة، إذن، ما الذي اختلف اليوم، ولماذا نشعر بأن البشرية يسوقها التافهون.
استفزني السؤال وأنا أتابع بعض مراسم توقيع معاهدة سلام واشنطن بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، إذ حضر في ذهني تاريخ الصراع منذ سبعين عاماً، وحضر وتداعت صور مناضلين وشعارات ومفاوضات سلام ومؤتمرات وحتى عمليات فدائية خططت لها نخبة من العقول مناضلين فلسطينيين وحتى عرب وأجانب.
تذكرت من القائمة الطويلة ياسر عرفات "أبو عمار"، ووديع حداد وجورج حبش وخليل الوزير وأحمد ياسين وأبو علي مصطفى وأبو إياد، وتساءلت ماذا لو كان هؤلاء حاضرون، وماذا لو أنّ البشرية أنجبت حمائم السلام نتنياهو ودونالد ترامب والزعماء العرب الجدد المطبعين قبل خمسين أو ستين عاماً، ألم تكن الأمّة قد تجنّبت كل هذا الدم والدمار والمليارات التي صرفت على قضيّة العرب المركزية.
أين كنت يا جاريد كوشنر، وماذا سنفعل بأرشيف القضية المكوّن من أكداس بملايين الأوراق والوثائق، لو أنك كنت قبل خمسين عاما فقط لوفرت علينا متابعة هنري كيسنجر ووارن كريستوفر وجيمس بيكر والسيدات الثلاثة أولبرايت ورايس وكلينتون، ولو أننا حصلنا على شركائك العرب العصريين لما احتجنا لدبلوماسية سعود الفيصل وصباح الأحمد. لو كان لدينا "الطقم" العصري للسلام لصلّى المسيحيون في بيت لحم والمسلمون في الأقصى كما يشتهون، لكن مهلاً، ماذا عن المستوطنات والمستوطنين، ماذا عن ملايين الفلسطينيين في الشتات وفي المخيمات، ماذا عن الجولان السوري المحتل، عن الأغوار والضفة الممزقة، عن غزّة المحاصرة.
وإذا كانت عبارات السلام التي أطلقها هؤلاء من واشنطن سهلة وسلسلة لهذه الدرجة، لماذا تركنا حلم فلسطين يتغلغل في أحلامنا، وماذا سنفعل بمحمود درويش ونزار قباني وسميح القاسم، وكيف سنبرر لمفكر مثل إدوارد سعيد ما كتبه في القضية.
يقول دونالد ترامب إن دستة من الدول العربية ستلحق بركب التطبيع، وهذا يبعث في النفس تساؤلات حول زعامات شغلها السلام مع نتنياهو، وتركت ملايين العرب اليوم نهبا للخيام والمرض والجوع، وتحت القصف بالطائرات، وجعلت تتسابق في صناعة المرتزقة وتمويلهم للقضاء على ما تبقى من مبررات البقاء والحياة في سوريا واليمن وليبيا وغيرها.
وإذا كانت القصّة جرّة قلم على ورقة، يحق لنا أن نسأل، ماذا حقق اتفاق كامب ديفيد لمصر بعد خمسين عاماً، وهل تستطيع مصر اليوم الوقوف على مسافة واحدة بين مصالحها الاقتصادية ومصالح إسرائيل، إذ دعكم من موقفها من غزّة، ودعونا نفكر بقرار القاهرة السيادي تجاه أمنها الخاصّ لا أمن العرب لكونها أكبر دولهم.
من هم دعاة السلام اليوم، وما هي خطتهم غير الحديث عن الرخاء الاقتصادي، ومجددا أسأل، أي رفاه اقتصادي هذا في عصر التوحّش والخيبات، فرغيف مصر يصغر يوما بعد يوم، وسوريا غارقة بدمها ودموعها، ودول الخليج أصبحت تراكم مديونيتها بعد أن أفرغ ترامب صناديقها السيادية، والسودان غارق في نيله، وليبيا تستعصي بيد العسكر القديم، والعراق تفوح منه رائحة الفساد ويعاني أولاده الفاقة بعد غنى.
هل الطائرات المحملة بالسياح بين تل أبيب وأبو ظبي ستجلب الرخاء لملايين الأطفال العرب المرميين بين المخيمات والأرياف البائسة ضمن ظروف صحية وتعليمية بائسة.
ثمة جيل جديد من زعماء السلام، جيل لم يدخل مخيماً للاجئين ولم يجرّب طعم الهوية، فهويته حقيبة مال وعبارة سرقها من فم التاريخ قبل أن يطلق عليه الرصاص، عبارة يستخدمها في المؤتمرات فقط وهي "السلام عليكم".
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية