أجاد القائمون على "التلفزيون العربي" حتى الآن، لعبة الإعلام، عبر عدم تحميلهم "التلفزيون" ما لا يحتمل من أدوار ومهام وحتى سياسات، فهو ليس كتاباً أو ندوة ثقافية، ولا هو منبر تحريضي مستمر، وإن كان التثقيف والتحريض، بعض مهامه، منطلقين من استشفاف حاجة المتلقي عبر طرائق عصرية وشركات متخصصة، تقيس تفاعله وتؤرخ نبضه، بعد أن غدت الخيارات أمامه، لا عد وحصر لها.
وربما المعادلة التي نراها على شاشة "العربي" بسيطة ومركبة في آن، فالتلفزيون وفق ما رأى كادره وارتأى، هو صناعة وصورة وتفاصيل، ولأن التخصص والتفرّد، شروط ضرورية للاستقطاب والاستمرار، اختاروا ثلاثيتهم "الإنسان، الأمل والسوشيال ميديا" كدستور ومقياس نجحوا أم فشلوا، رأوه بأم أعينهم "بالأمس" خلال الاحتفاء بإطفائهم الشمعة الرابعة على الانطلاقة.
خط الإنسان أولاً والباقي تفاصيل، ليس من السهل تعاطيه بتوازن مستمر، خاصة بواقع الأقطاب والتجاذبات واختلاط وتداخل المصالح، فعلى سبيل المثال وقلما رأيناه بقناة تلفزيونية، زار الرئيس السوداني، عمر حسن البشير قطر قبل أيام، وخط الإنسان الذي يأخذه "العربي" هدفاً وغاية، يتناقض مع فرد مساحة لزيارة ضيف للدوحة، أو اعتباره فاتحاً وديمقراطياً، وأبقى على تغطية التظاهرات بالسودان المناوئة لضيف قطر، ليقدم دليلاً عملياً للمتلقي، أن خط الإنسان أولاً هدف، وفعلاً ما عداه تفاصيل، بل ويفسح لمنع مراسله من تغطية "ثورة السودان" ربما أضعاف ما أفرد لزيارة البشير.
هذا المثال الفيصل، هو امتحان صعب، نجح خلاله "العربي" بالأداء وليس بالتنظير والتغرير بالمتفرجين، عبر التزامه بقضايا الإنسان العربي، الذي ترك لهم الكاميرا، ليرووا ضمن ضوابط المهنة، حكاياتهم وما تركته نيران الحروب، من فجائع وكدمات، على الأسر والأنفس وحتى المستقبل، وليأخذ كادره أدوار "اللسان" بدول آثر حكامها، كمّ الأفواه وقطع الألسن، متعدياً ببعض الأحايين، حدود "عروبته" ليؤرخ خلال سنواته الأربع، معاناة الإنسان، من أفريقيا فالمكسيك، وصولاً لروهينغا وميانمار.
وأما الأمل، فكانت ثانية الأثافي بتلفزيون العربي، ليهرب عبر إتقان تعاطيه، من مطب سقطت فيه كبرى المحطات الإقليمية والدولية.
ولعبة بث الأمل بالغد للمتلقي، بواقع انسداد الأفق وجريان الدم وتدفق الخراب، ليست "نزهة مهنية" بل أداء بميزان الذهب، فأن تُخرج جمهورك عن مستنقعات الإحباط، من دون أن تستخف بمعاناتهم وقضاياهم، وتحافظ على نسبة المشاهدة واحترام المكلوم، فتلك لعمري قمة المهنية، وإلا، فإحباط المتفرج عبر رجمه بكل ما في هذه الدنيا من خلل وخراب، أمر لا يحتاج ربما، أكثر من التعاقد مع الوكالات المصورة وصفع المشاهد بكل ما يدفعه لحفر قبره، وانتظار ملك الموت.
فالتلفزيون الذي ينقل عبر "كما ورد" لا يفوته أن يضخ " طرب والأغنية الشعبية"، وبين نشرات الأخبار و"كل شيء تحت السيطرة" يقول "وفي رواية أخرى" ما يراه الآخر، مبتعداً عن سياسات التوجيه والإملاء، التي باتت سلعاً كاسدة بمعظم التلفزات، لينبش عبر "وثائقيات" باتت لعبته، ما حاول الكبار وأولو الأمر طمره، ويترك المتلقي دونما قسرية وإملاء، حرية البحث عن إجابات الأسئلة المعلقة ويقدّر ضيق الهوامش، بين النظريات والتطبيق، حتى بأداء الدول التي عرّاها ربيع العرب، من وريقات الادعاءات الديمقراطية والحرية وحقوق الشعوب.
ليأتي رهان الركن الثالث "السوشيال ميديا" أقرب للمجازفة والرهان بآن، فالمتلقي الحديث، إن جاز الوصف، لم يعد يطيق الاستهلال والتقديم، كما ليس لديه من الوقت والترف، لتغرقه التلفزات بهواجس صناعها، في حين تتزاحم البدائل ويتسابق أباطرة الإعلام، لتقديم "وجبته" دسمة، بسلاسة ومباشرة وسهولة.
وربما باعتماد "العربي" على نجوم السوشيال ميديا، ليكونوا ضمن كوادره، بل ولهم الأولوية والحظوة، تتمة لذاك الخط وتأكيد على إقران القول بالفعل، فمن "جو شو" إلى "ملاقط" أمثلة ربعّت التلفزيون على قمة المشاهدات تاركاً بينه وبين تلفزات عريقة، مسافة وتأمل واندهاش.
نهاية القول: ثمة هنات وسلبيات بتلفزيون العربي ولا شك، ربما حداثة عهده وما حققه خلال هذي السنوات القليلة، تغفر له، بيد أن اختياره "تلفزيون منوّع" يعتمد الشباب اكسيرا والإنسان غاية، كانت لعبة الحرفية وعلامته الفارقة.
وربما كلمة السر الأهم، في حجز "العربي" مكان ومكانة، في زحمة الفضائيات وتنافس الدول ورجال الأعمال، الذين تسعون لتتويج ممالكهم المالية والسياسية بوسائل إعلامية، كانت "الأجندة المتبدلة" فحين تقتضي العدالة خروج المصورين إلى أمام الكاميرا "فليكن" ووقتما يستأهل الحدث التحول لمحطة إخبارية "فورا" ليرسل "العربي" ولمن يهمه الأمر، أن لا أجندة سياسية ضاغطة ولا من مقدس، إلا ما يطلبه الجمهور.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية