أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العفو الفخ.. سليمان النحيلي*

أحد عناصر النظام في ريف درعا - أرشيف

لا ينفصل القانون عن السياسة غالباً، ولعل من أبرز تعاريف القانون أنه: "مجموعة القواعد التي تسنّها سلطة حاكمة ما حمايةً لمصالحها وأهدافها وتحقيقاً لتطلعاتها".

وضمن هذا المفهوم الواسع تنضوي جميع القوانين التي تصدرها السلطة الحاكمة في أي دولة، فالأثر السياسي لا بدّ أن يظهر في أي قانون صادر في أي دولة.

ولا تخرج قوانين العفو عن هذا المبدأ، بل إنها من أكثر القوانين التي يظهر فيها الأثر السياسي، أو يكون العامل السياسي وراءها، ولذلك نلاحظ أن معظم دساتير دول العالم قد أناطت صلاحية إصدارها برأس السلطة الحاكمة (رئيس جمهورية، رئيس حكومة، ملك).

وفي الواقع العملي عادةً ما تصدر قوانين العفو تلبيةً لظروف سياسيةٍ معينة يمرّ بها بلدٌ ما، كحالة إصدار رئيس الدولة قانون عفو عقبَ فوزه في الانتخابات التي أوصلته للحكم، أو عقب حدوث مظاهرات أو ثورة أو تمرد أو إضرابات، وذلك بهدف احتواء هذه الأوضاع واستمالة معارضيه، أو بمناسبة ذكرى وطنية ما، كعيد الاستقلال مثلاً.

ومناسبة هذا الكلام هي إصدار رأس النظام السوري بتاريخ 9/10/2018 للمرسوم التشريعي رقم 18، والمتضمن "عفوا عاما عن بعض الجرائم"، حيث نص على: "منح عفوٍ عامٍ عن كامل العقوبة لمرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عليهما في المادتين (100 -101) من قانون العقوبات العسكرية والمرتكبة قبل تاريخ 9/10/2018.

وقد استثنى هذا العفو من شموله الأشخاص المتوارين عن الأنظار، والفارين من وجه العدالة، إلّا إذا سلّموا أنفسهم خلال أربعة أشهر بالنسبة للفرار الداخلي، وستة أشهر بالنسبة للفرار الخارجي اعتبارا من تاريخ صدور هذا المرسوم.

وبالعودة إلى السّياق الذي قدّمناه أعلاه، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا العفو ليس الأول منذ اندلاع الثورة السورية، حيث سبقه ثلاثة مراسيم عفو في أعوام 2011، 2014،2015، يظهر لنا أن العفو الصادر مؤخرا ينفرد في أسبابه وآلياته ومدلولاته وفي الظروف الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي.

فعلى الصعيد الخارجي: فإنه ليس بخافٍ على أحد سعيُ النظام في المرحلة الحالية إلى تجميل صورته التي تلطخت بدماء مئات الآلاف من الأبرياء، وبالتالي يأتي صدور العفو في هذا التوقيت خدمةً لهذا المسعى، وبالتناغم مع المسعى الروسي الحثيث لحل المسألة السورية بالطرق السياسية.

وعلى الصعيد الداخلي: فالمتتبّع لأحداث السّاحة السورية، يدرك أن العفو جاء كخطوة لتعويض النقص الكبير في عدد جيش الأسد بعد أن شربت الحرب التي شنّها على شعبه معظم قواته، وانشقاق الآلاف من الضباط والجنود عن جيشه، ولا أدلَّ على ذلك إلّا خصّ العفو لجرائم الفرار وهي من يقوم بها العسكريون فقط، ومسارعة ِالنظام إلى سوقِ آلاف الشّبّان للخدمة العسكرية في جيشه من المناطق التي أجرت "المصالحات" معه في مناطق الغوطة الشرقية وغيرها.

ومن جهةٍ أخرى فإن هذا العفو يأتي كمحاولة لمدِّ جسور الثقة بينه من جهة وبين الشعب عامةً والعساكر المنشقين خاصةً، إذ يدرك النظام أنّ ثمّة أزمة ثقةٍ بينه وبين أبناء شعبه بكافة فئاته، ومردّ ذلك:
1- إدراك العساكر المنشقين أن القوانين المعمول بها حالياً في سورية تعتبر البلاد في حالة حرب، وبالتالي فإن عقوبة جرم الفرار في هذه الحالة هي الإعدام.
2- عدم وفاء النظام لعهوده التي تعهد بها وضمنها الطرف الروسي، الأمر الذي تجلى في الملاحقات والاعتقالات والسوق للخدمة العسكرية والتصفية الجسدية.
3- ماضي النظام الفظيع على المستوى البعيد والقريب والمتمثل في الاعتقال التعسفي والتعذيب حتى الموت والقصف والتهجير الممنهج والحصار والتجويع السوريين.

لذلك فإن محاولة النظام لمدّ جسور الثقة تلك، تبدو فاشلة وغير ذات جدوى، بالرغم من أنه حاول في هذا العفو أن يصوّر نفسه أكثر رحمة وتسامحاً، لإعطاء الانطباع لدى الرأي العام الداخلي والخارجي أنه بات أهلاً للثقة، الأمر الذي تبدّى في مدِّ مهلة تسليم العساكر الفارّين لأنفسهم من شهر إلى أربعة أشهرٍ بالنسبة للفرار الداخلي، ومن ثلاثة أشهر إلى ستة أشهرٍ في حالة الفرار الخارجي قياساً على المهل الممنوحة في قوانين عفوٍ سابقة.

*فخُّ العفو: لكنّ هذه الثقة التي يحاول النظام مدّ جسورها، سرعانَ ما ينسفها ببرميلٍ متفجّرٍ قانوني ّ هذه المرة، إذ أنه وبقراءة تفسيريةٍ لمتن قانون العفو يتضحُ لنا، أنّ العفو شمل جرائم الفرار الداخلي والخارجي فقط، دون غيرها من الجرائم، وعليه، فلو سلّم العسكريُّ الفارّ نفسه لسلطات النظام فسيشمله العفو حتماً، ولكن لا شيء يمنع قانوناً أن يكون عُرضةً للملاحقةِ بجرائم شتّى لم يشملها العفو من قبيل الانتماء إلى تنظيم إرهابي، وحمل السلاح ضدّ الدّولة، والاشتراك في الهجوم على مواقع الجيش وقتل عناصره، وسرقة أسلحة وذخائر الجيش، وذلك سواءً قاتلَ العسكري المنشقّ مع أحد الفصائل ضد النظام أم لم يقاتل.

تلك قائمةٌ تطول من الاتهامات التي قد تواجه العسكريين فيما لو سلّموا أنفسهم، والتي لا يقل الحدّ الأدنى لعقوبة كلٍّ منها عن الأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات وقد تصل الإعدام.

وبتصوّري فمن الضروري في هذا المقام الإشارة إلى لَبْس معين ربما يحصل على أرض الواقع، فلو افترضنا أنّ جندياً فرّ من مناطق جيش النظام السوري إلى المناطق المحررة في إدلب بعد تاريخ صدور العفو في 9/10/2018، لكنه عاد وسلّم نفسه ضمن مهلة الأربعة أشهر فهل يشمله العفو؟
والجواب قطعاً لا، ويكون قد جنى على نفسه كـ"براقشَ"، وعلّة ذلك أنّ الفرار وقع بعد صدور قانون العفو، في حين أن العفو يشمل الفرار الحاصل بتاريخ سابق لصدوره، ولا عبرة لتاريخ تسليم نفسه البتة.

وهذا ما يسمى قانوناً الأثر الرجعي لقوانين العفو، فلا يُتصوّر أن يشمل عفوٌ جريمةً لم ترتكب بعد.

والخلاصة إن مرسوم العفو هذا سياسيّ بامتياز من كل الوجوه، ولا يعدو كونه محاولةُ تجميل فاشلةٍ لوجه النظام القبيح، كما أنه فخّ ٌ قانونيّ مُحكمٌ، لكنه مكشوفٌ، لن يقع فيه الشعب السوري الذي جرّب النظام على مدى خمسة عقود، ولسان حاله يردّد المثل الشعبي (اللي يجرّب المُجرَّب عقلو مُخرّب).

*من كتاب "زمان الوصل"
(134)    هل أعجبتك المقالة (145)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي