تُعد مدينة "الرصافة" الأثرية الواقعة في شمال بادية الشام على بعد 30 كم جنوب غرب مدينة الرقة نموذجاً للمدن التاريخية التي عاشت في العالم القديم وجمعت بين حضارات الشرق والغرب وتعايشت فيها الحضارات والأديان خلال قرون طويلة. وشهدت سلسلة من الحروب أدت إلى إحراقها وتدميرها ثم أعاد الأباطرة الرومان بناءها بسبب ارتباطها الوثيق بالقديس المسيحي سرجيوس "سركيس".
ورغم أن مدينة "الرصافة" تعرضت للكثير من النهب من قبل الغزاة وضاع الكثير من كنوزها بفعل عوامل الزمن والطبيعة والإنسان، إلا أن أعمال التنقيب التي بدأت منذ منتصف الخمسينات أظهرت الكثير من الُلقى النادرة ومنها لوحات فسيفساء ورسومات جدارية هامة وأوانٍ زجاجية وكسر فخارية وخزفية من مختلف العصور التاريخية وأجزاء من لوحات رخامية عليها كتابات سريانية ويونانية، كما عُثر عام 1982 على جرة فخارية خضراء اللون فيها كنز من الحلي والهدايا الفضية تحمل إحداها اسم الأمير "راؤول الأول" الذي شارك في الحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك الإنكليزي "ريتشارد قلب الأسد"، وهو الملك الذي ارتبط اسمه بالمعاهدة التي أبرمها مع البطل "صلاح الدين الأيوبي" غير أن أهم ما كشفت عنه التنقيبات في "الرصافة" ما سُمي "كنز الرصافة الفضي" الذي عُثر عليه في أرضية الدير المجاور للكنيسة عام 1986.
ويضم هذا الكنز العديد من القطع الثمينة ومنها كأس منفردة وطاسة (صينية صغيرة) لها قاعدة ومبخرة ذات سلاسل وكلها من الفضة وجزء منها مذهَّب ومخطط باللون الأسود وتحيط بفوهة الكأس كتابة سريانية بالخط الأسطر نجيلي، وعلى الصينية كتابات سريانية ويونانية وعربية إضافة إلى صور للسيد المسيح وللسيدة العذراء، ويعتقد الباحث الآثاري الألماني (تيلو أولبرت) الذي اكتشف الكنز المذكور أن الأواني صُنعت في الشرق وفي مركز ديني معروف كإيديسا (الرها) وأن بعض الملوك الصليبيين قدمه إلى كنيسة الرصافة كنذر عليه.
وترجع أهمية هذا الكنز المكتشف ليس فقط كدليل إثبات على استمرار الحج المسيحي للمنطقة حتى هذه الفترة بل على إيضاح مدي تأثر وارتباط صناعة الحلي والمجوهرات في الشرق بشكل هذه الصناعة في الغرب إبان الحملات الصليبية أيضاً.
ومن أبرز الإشارات التي كشفت عنها أعمال التنقيب والحفريات أنظمة الري والخزانات المائية التي كانت موجودة في الرصافة وكذلك شوارع المدينة التي كانت تجمع فيها مياه الأمطار ويصار إلى تصفيتها بصورة طبيعية تكفي لاستهلاك سكان المدينة التي كانت عبارة عن معسكر تلك الفترة الزمنية، وأمكن من خلال هذه التنقيبات وغيرها التعرف على تاريخ الرصافة الحقيقي التي يعود أقدم ذكر لها إلى العصر الآشوري، ومن المؤكد أيضاً أن هذا الموقع كان في العصر الروماني حصناً يصدُّ أي هجوم فارسي، وكان ثمة قلعة بسيطة أُضيفَ إليها سور.
وفي القرن الرابع حدث أن استشهد سرجيو بوليس وهو ضابط سوري في الجيش الروماني قُتل أثناء الاضطهاد المسيحي في عام 300 بعد الميلاد عند اعتناقه للديانة المسيحية، ودفن هذا الضابط في الرصافة، وأصبح ضريحه مركزاً هاماً للحج المسيحي أثناء القرن الخامس والسادس الميلادي، لتتحول المدينة، والتي سميت بعدها باسمه "سيرجيو بوليس" إلى أسقفية مسيحية كبرى تحتوي على عديد من الكنائس (بازيليكا) كانت تُعتبر الأكبر على الإطلاق في منطقة الشرق.
*مثال فريد
من كنوز "الرصافة" أيضاً الكاتدرائية الأثرية، وقد بيّنت تنقيبات عام 1976 أنها كانت تدعى "كنيسة الصليب المقدّس" وتعود إلى العام 559 وتضم أكبر "بيما" في بهوها الأوسط، ويقود الشارع الرئيسي في المدينة إلى مبنى أول هو كنيسة "الشهادة" الذي كان يحتفظ بأجساد القديس سرجيوس ورفيقيه باخوس وجوليا.
وهذه الكنيسة عبارة عن بازيليك، الأرض والحيطان مصنوعة من الجبس المتوفر في تلك المنطقة وإلى الجانب الشمالي من البازيليك، توجد قاعة مستطيلة ربما كانت مأخوذة من الرواق الجانبي للكنيسة على الأرجح، وقد استخدمت كجامع في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر.
وهذا دليل واضح على أن آثار "الرصافة" تُعد مثالاً فريداً للالتقاء الفن المسيحي الإسلامي في أجمل صوره، إذ يعكس القصر الملكي لهشام بن عبد الملك -على سبيل المثال- مدى تأثر الفن الإسلامي المبكر بطرز وأشكال الفن البيزنطي هذا التأثر الذي ظل لوقت طويل غير معروف لعلماء الآثار وتاريخ الفن، وعلى جدران "الرصافة" وسواكف بواباتها العديد من الكتابات اليونانية والعربية التي تؤكد أن الديانتين المسيحية والإسلام قد سارتا جنباً إلى جنب حتى في أيام الانحطاط وهذا ما يؤكده أيضاً العثور على مجموعة ثمينة من الأواني والكؤوس والصحون والمباخر مما كان يُستعمل في خدمة القداس، قبل تدمير "الرصافة" من قبل هولاكو عام 1259.
ومن منشآت "الرصافة" الرائعة التي تعرضت لتخريب جرّاء الحرب الباب الشمالي الذي يُعد من أجمل أبواب المدينة وأكثرها زخرفة، والباب مؤلف من ثلاثة بوابات مقوّسة محاطة بأعمدة كورنثية الطراز، وتحت كل قوس فتحات لصب الزيت على المهاجمين ومن الباب الشمالي ينطلق الشارع المستقيم محاطاً بأعمدة جميلة ويقطع الشارع مبنى الشهيد مارتيريوم وله حنيِّة كبيرة مزخرفة الأطراف.
وتأتي بعده الكنيسة الكبرى التي يُعتقد أنها كانت تضم رفاة القديس سرجيوس. وبعدها في الجنوب منطقة الخزانات الأرضية الضخمة التي تتسع إلى 16 ألف م3 مما يشير إلى كثافة السكان في هذا الموقع ومن أهم المباني كاتدرائية سرجيوس الكبرى وتقع في جنوب شرق "الرصافة"، ويلحق بها عدة مبانٍ وتتألف من صحن رئيسي في الوسط ومن رواقين جانبيين، وتبدو في الطابق العلوي للرواق نوافذ ذات أقواس. وثمة إيوان كبير أو حنية مزخرفة ومصطبة لرجال الدين، ولقد تم مؤخراً اكتشاف آثار جامع في حرمه محرابان ويُعتقد أنه ظل مستخدماً حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية