أعيش في بناءٍ خلا من السّكان، وازدحم بالضجيج، ضجيجٌ يأتيك من كلّ مَكان، فلا تنعم بدقيقة صمتٍ إلا عندما تسمع صوتَ طائرة حربية في الأجواء، فتصغي عندها لصمت الغوطة .. حقيقة إني اعتدت أمرَ الطائرات، لم يعد ضجيجها يَقضّ مَرقدي، ولا حتى ما تلقيه من أشياء غريبة، فأنا أصيرُ حَصيناً من كل شيء عندما أنام، إلا تلك الضجّة الآتية من الطابق ناقص واحد، الطابق الذي استحدثه الجيران مؤخراً، واستوطنوا ما تحت الأرض.
لم أفهم يوماً البَشر، أقصد جيراني هؤلاء، وقدرتهم على الامتزاج مع الأشياء، فهم يخلطون الجوع بالشبع، الحزن مع الضحك، الألم مع اللعب، والحياة مع الموت!، أما أنا فاخترت مكاني الذي لم أبرحه، لا خوفٌ عليّ ولاهم يحزنون، اختلس النظر الى الخارج من شقوق الجدار، أرى الناس أحياناً، يَمرّون هَلعين، راكضين، ومرات أخرى أراهم يقفون بصمت يَنظرون الى السماءِ بوَجل، فأتعجّب، ما الذي ينظرون اليه؟ هل فُتِحت أبواب السماء وكُشفَ الحِجاب! أم أن ملاكاً رفّ بجناحيه فأعمى عين الشمس! لا أدري، حاولت قراءة الارتسامات الغريبة على وجوههم، لم أفلح، أحاول أن أرى انعكاس السماء في عيونهم، لأعرفَ ما إن كان خيراً أم شراً، ما الذي يجعل عيونهم مشدوهة بوجل؟ إلا اني أمراً لم أعرف، فأحياناً يَمسح الضّحك على وجوهِهم وقارَ الصّوت العَظيم، وهَيبَة الظّلِ الذي غَطّى ضَوءَ الشمس! فأحياناً أعرفُ الخَوفَ في وجوهِهم وهم يَنظرون الى صِغارهم، لا الى شَبح الموتَ الذي يَرمي البَراميل. فأظلّ عاجزاً عن مَعرفة ما يجري حق اليقين، فليس هؤلاء البشر كَغيرهم خارج حدود هذه الغوطة!.
أذكر أني كنت يوماً أعيش هنا في نفس هذا المكان، وأذكر هؤلاء الناس جيدا، كانوا كريمين في فقرهم، وجريئين في خوفهم، وبشوشين في حزنهم، و وقورين في فرحهم، وهادئين في خبثهم، يتعرّقون وهم جالسين، ويَسترخون ببرودة وهم يكدون ويعملون، لا يمكن فهم هؤلاء الناس ان لم تكن خليطاً منهم ومنك، لكن ما أنا متيقّن منه، أنهم بأحسن حال من غيرهم، بل هم أكثر وضوحاً رغم عنادهم على الطبيعة.
حاولت مساءَ البارحة النوم عبثاً، فهؤلاء الجيران المزعجون في الطابق السفلي، لا يتركون سبيلاً للسكينة، إنهم يَبكون ويَصرخون ويَضحكون في آن! لم أفهم، رَنوت إلى أحد الشقوق في البلاط لأرى ما يحدث، رأيت طِفلا جائعاً يَطلب الطعام، وأماً تضع ثَديَها في فَم رضيعها، إلا أن الدموع لا الحليب، هي ما كانت تسقي شفاه الرضيع، رأيت شيخاً يُصلّي، وشاباً يسخرُ من السماء، رأيت خمسة شباب آخرين، يَسمَرون على فنجانِ واحدِ من القهوة، رأيت رغيفَ خبزِ يَجول بين أيدي حلقة من الأطفال، يَجلسون بشكلٍ دائري على رُكبهم، كنمر يتربص بالطريدة، فأرى الرّغيفَ من الأعلى وهو يتحرك كعقارب الساعة ولا يهدأ، ولا ينفذ ايضاً! فأطفال تلك الحلقة كانوا يَمضغون شيئاً آخر مع الخبز، ربّما كان المَرارة، أو القهر، وربما كانت القناعة، نعم هي القناعة.
في أحد الأيّام، كنت أتلصّص من شقوق الجدار إلى الشارع، رأيت جمعاً من الناس، بينهم شبّان يرتدون خوذاً بيضاءَ على رؤوسهم، شُبّه إليّ أنهم "فريقُ هوكي"، فهم يرتدون نفس الزيّ، ويضعون نفس الخُوَذ، ويحملون معدّاتٍ تشبه مضارب الهوكي، والبردُ يُحوّل أنفاسهم بُخاراً كثيفاً، إلا أن فريقاً كهذا لم أره من قبل، عندما كنت أعيش هنا.! نادى الكابتنُ على قلبِ الهُجوم: أدخل أنت، نَاور الرّكام وحَاول أن تَسحبهُ من قَدميه، فردّ عليه من الخَلفِ لاعبُ الدّفاع: لا لن نستطيع صدَ هُجوم السّقف إذا وَقع! أما جمهور المُتفرّجين، كانوا يَنظرون بِاتجاهيَ وكأنّي هَجمةٌ مرتدّة، وينتظرون أن أنهض بِهَدف الفوز، رغم إني لم أكن أجيدُ اللعب، ولا الحِراكَ في تِلك اللحظة، صَراحة لا أعرفُ ما أجيد الآن أكثر من مراقبة الجيران.
اليوم صباحاً حدث أمرٌ مُريب، فبعد أن سَمعتُ صوت انفجارٍ كبير، والكثير الكثير من الضجيج والعويل البشري، حَدث هدوء نِسبي في المكان، ثم رأيت رجالا ونساء يمرون مسرعين ليدخلوا الطابق السفلي، تحت الأرض.
ركضت الى الشقّ الآخر في البلاط، ونظرت الى أقصى الزاوية في ذلك المكان، وإذ بالنسوة يتحلقن حول صبيّة ترتدي ثوباً أبيض، وعلى وجوههن الفرح، الكثير من الفرح والحزن، في اختلاط مريب للمشاعر التي لا يقدر عليها سوى جيراني هؤلاء.
يخترقُ رجل مُسن صفّ النساء الباكيات الضاحكات، فيضع يده اليمنى على رأس تلك الفتاة بالثوب الجميل، ويَسحبُ بيده اليُسرى سيجارته العتيقة من بين شفتيه المشققتين، المُتظللتين بشاربٍ أبيضٍ كَثّ، فيقول لها: لا تحزني يا ابنتي، فها أنتِ تَخرُجين عروساً من بيت أيبكي كما يجب، ولو كان من تحت الارض، فأيّ مكان في هذه الارض هو بيتنا الذي لا نخرج منه إلا إليه، اذهبي مع زوجك، وكوني له عوناً وبيتاً، كهذه الارض .. بَكت الفتاة بحرقة، لكني لم أستطع في تلك اللحظة إلا النّظر الى وجه ذلك الرجل الهَرم، كانت عيناه ملونة، بخطوطٍ عرضيّةٍ بالأبيض والبنّي والأسود ثمّ الأصفر والاحمر! لكنها كانت جميلة، كان وجهه مليء بالشقوق، كمَثل جدراني هذه، كان يشبه هذا البيت وهذا الجدار وهذا الحي، يَبكي ويضحك والدّخانُ يَخرج من بين أصابع يده التي تشبه جذع شَجرِ الزّيتون، قاسية جافة مشققة مجعّدة ومليئة بالحب، تغفو كفّه الأخرى على رأس تلك الصبيّة فتبارك زواجها من الشاب الذّي كان ثابت الوجه، لم يَحتج ليَرسُم الموقف انطباعاً على وجهه، فقد كان يَرمي عَيناً على عَروسِه، وعيناً على مَدخل القبو، يَمدّ يداً باتجاه عروسه، وبالأخرى يتمسّك بِسلاحه، وحوله رِفاقه الذين يبكي بعضهم ويضحكُ الآخر، في حالةٍ لاتشبه سواهم، خليطٌ من أحاسيس سكان الطابق السّفلي.
غنّت النّساء والرجال معاً، كان يوماً رائعاً للأطفال الموجودين، فقد جاءهم رجلٌ بعلبة حلوى تطايروا إليها كعصافير تَحوم حول أمّها لتأخذ الطعام من فمها.
أما أنا، فقد كُنت منزعجاً جداً من كلّ ما يَحصُل، فلم أستطع النوم من أصوات الزغاريد والتصفيق، والانفجارات والعويل والصراخ، من صَوت الأطفال الجائعين المزعجين الذين يَلعبون رغم جوعهم وبردهم، ما هؤلاء القوم؟ جبّارون متحايلين على الزمان والمكان والموت والحياة.. لا جعلهم الله اعداء لأحد، فسيظفرون به ولو من تحت الأرض.
وتساءلت لما يَعيش هؤلاء في الأسفل، هل هم أمواتٌ وأنا وُهِبتُ النظر الى عالم الغيب؟ أم أنّهم أكثرُ حياةً مني ولكنّ الأمرَ معكوس ككل شيء في هذا المكان !، أنا الميّت فوق الأرض، وهم الأحياء تحتها؟!
مرّ رجلان من أمام ذلك الجدار الذي أتلصصُ من خلفِ شُقوقه، كانا يَنظران باتجاهي بحزنٍ لم أفهمه، قال أحدهما: رَحم الله جارنا الصحفيّ ذاك، قد كان يحبّ الجلوس خلف هذه النافذة كل صباح، ليكتب على اوراقه المتناثرة تلك، وينظرُ أحوال الناس. فردّ عليه الآخر قائلا: وما أدراك، ربّما كان الآن هناك خلف الرّكام، يَنظرُ إلينا، ويكتب شيئاً ما، فلم نعد نعرف من منّا الميت، ومن منّا الحي في هذا الجحيم ..! أصابني الهَلع والرّجفة من كلامهم، أمّا هُما، فقد انفجرا ضحكاً ومَضيا.
*سعد الربيع - صحفي سوري
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية