يكثر الحديث داخل الأوساط الموالية لنظام الأسد، عن سقوط نحو ثلاثة آلاف قتيل من قواته ومرتزقته داخل الغوطة خلال أسابيع، وهي أرقام لم تقلها حتى المعارضة المسلحة، والأكثر إثارة للتساؤل هو رقم 20 ألف قتيل محتمل من تلك القوات خلال المعركة التي يفترض أن تنتهي بالسيطرة الكاملة على مدن وبلدات الغوطة وأهمها "دوما" عاصمة الريف الدمشقي.
خلال الأسابيع الثلاثة المنصرمة أشارت الأرقام إلى سقوط نحو 800 مدني وإصابة نحو 4 آلاف آخرين، أضف إلى نحو 130 مقاتلا، فيما تشير أرقام الفصائل المسلحة إلى مصرع نحو 1300 من عناصر النظام.
بالنظر إلى الأرقام السابقة يمكن تأكيد ما هو متعلق بالضحايا المدنيين، لكن الأرقام المتعلقة بالخسائر العسكرية ستبقى طيّ الكتمان لبعض الوقت، حتى لا تؤثر على لحظة الاحتكاك الحاسمة داخل المدن والبلدات، فجميع المعارك السابقة والتقدم الحاصل لقوات النظام تبقى في إطار التكتيك الدفاعي لثوار الغوطة، إذ إن استخدام استراتيجية "الجراد" والأرض المحروقة في هجوم النظام ـ كما يسميها عسكريون ـ لا يمكن مواجهتها طالما أنها تجري في مساحات مكشوفة، وتحت وابل من نيران القاذفات الحربية الروسية.
إذن، ما الذي ينتظره النظام في "دوما، وحرستا وجوبر وعربين" وغيرها، وهل انتهت المعركة أم أنها بدأت الآن، وما هي التوقعات.
في أبسط الحالات لا يمكن انتظار أن تنتهي المعركة عسكريا لمصلحة الثوار في الغوطة، لكنها أيضاً قد لا تنتهي لمصلحة النظام، وفي الحالة الثانية تكون النتيجة هزيمة معنوية وسياسية للأخير، ومرحلة حرجة وصعبة للقوى التي تدير الحياة العامة في الغوطة الشرقية، فالمدنيون الذين يتراوح عددهم بين 300 و400 ألف سيخرجون من الملاجئ إلى الأنقاض، على مساحة لا يمكن العيش فيها، إذا تكلفت كميات القنابل والصواريخ والنيران الهائلة المصبوبة عليها بتسوية الأحياء والأبنية بالأرض، وهذا يعني أنه لا خدمات ولا مياه ولا كهرباء ولا مدارس، وتلك هي العوامل الأساسية للصمود فترة إضافية.
ماذا بعد؟ بضعة أيام تفصل روسيا عن انتخابات الرئاسة، والمؤكد أن الرئيس فلاديمير بوتين سعى لنصر سياسي في مؤتمر سوتشي الذي انعقد نهاية الشهر الأول الماضي، إلا أن النتائج جاءت عكس ما يشتهي، وهو ما اضطر موسكو للقبول بتسليم مهمة تشكيل لجنة كتابة الدستور إلى المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا، ووفق مرجعية جنيف، الخطة باء كانت تحقيق نصر عسكري من خلال معركة السيطرة على الغوطة الشرقية، إلا أن المدّة التي كان يفترض أن تنتهي فيها المعركة لا يبدو أنها قد تحققت، وهو ما قد يضطر الروس إلى فرض نوع من التهدئة تمريراً للانتخابات.
أين يقف الأمريكيون؟ واضح تماماً مستوى الانزعاج الأمريكي من التصعيد الروسي في الغوطة وكذلك لاحقا استهداف مناطق خفض التصعيد في درعا، إلا أن الطرفين الروسي والأمريكي يمارسان لعبة عضّ الأصابع، فواشنطن تعتمد إدارة عمليات من الخلف ربما كان من نتائجها هجمات "الدرون" الثلاثة على قاعدة "حميميم"، أضف إلى مناوشات هنا وهناك، منها استهداف الطائرات الأمريكية الأسبوع الأول من شباط ـ فبراير الماضي تجمعاً لقوات النظام والمرتزقة الروس قرب حقل "كونيكو" شرقي الفرات ما تسبب بمقتل نحو 200 من تلك القوات.
ماذا عن الإيرانيين؟ لا يبدو الإيرانيون بعيدين عن كلّ ما يجري، إلا أنهم وعلى غير العادة أقل نشاطاً في الإعلان عن مشاركتهم على الأرض خلال هذه الفترة، والسبب هو شعورهم بأن الأميركيين جادون في استهدافهم في سوريا وغيرها، خصوصاً بعد المعركة الجوية التي انتهت بإسقاط طائرة حربية إسرائيلية من طراز إف 16 في العاشر من شباط ـ فبراير، ليتبين أن إيران ضالعة في العملية عبر خبرائها وقواعدها الجوية.
ربما منع اتصال بوتين اللاحق برئيس حكومة إسرائيل نتنياهو تصعيدا مفترضا بعد إسقاط الطائرة مباشرة، إلا أن هذا يعني تأجيل المعركة، وربما إلى أمد غير بعيد، وهو ما يتضح من سلسلة تغييرات في الخطاب الأمريكي، وصلت إلى حدّ تغيير أكبر مسؤول دبلوماسي وهو وزير الخارجية ريكس تيلرسون على خلفية تباين في وجهات النظر مع الرئيس دونالد ترامب حول التهاون بشأن الاتفاق النووي مع إيران، وليحل مكان تيلرسون أحد الصقور المتوافقين مع ترامب وهو رئيس "سي آي إيه" مايك بومبيو.
لن يطول الوقت حتى نشهد تحولات كبيرة في المشهد السياسي وربما العسكري في المنطقة، وما يجري اليوم في الغوطة الشرقية هو جزء من هذه السلسلة غير المنتهية من التطورات، والتي تشهد بعض الأوقات اندفاعات ميدانية لتثبيت خطوط الدفاع والسيطرة وتقاسم النفوذ.
ماذا لو فشل الجميع في وقف الجموح الروسي؟.. إذا لم يستطع مجلس الأمن وقف ما يجري في الغوطة، أو فرملته، فإن الالتحام القادم سيكون قاسياً مع رفض المدنيين الخروج من مناطقهم، وكذلك دخول المعركة مرحلة المواجهة بالبنادق والسكاكين، وتلك المواجهة هي التي ستقود إلى الرقم المفترض للخسائر حسبما سرّب قريبون من النظام.
لعل 20 ألف قتيل من قوات النظام والمرتزقة لا يمكن أن تكون قرار بشار الأسد، وإنما قرارا روسيّاً، كنوع من إثبات القدرة، ولكن المشكلة قد لا تنتهي عند غوطة مدمّرة على نمط "غروزني" لأن هناك لاعبين آخرين من الشمال والجنوب، كما أن عملية إعمار وتشغيل المساحة التي توازي مساحة العاصمة أمر شبه مستحيل، في غياب الدّاعم الأوروبي وحتى العربي الخليجي.
إن مكاسب معركة الروس في الغوطة تنتهي مع تمرير فوز بوتين بولاية جديدة، وبعدها ـ إن اجتاح الغوطة ـ أين يذهب نحو 280 ألف جندي ومسلح للنظام والدول الداعمة له، فالكعكة باتت مقسّمة نظرياً، وبعد الغوطة ستدخل البنادق في أحد احتمالين، العطالة، أو البحث عن معركة أحد أطرافها خارج سوريا... ويبقى احتمال عدم سقوط كامل الغوطة وارداً تبعاً للتطورات.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية