كتب تينيسي وليامز (١٩١١-١٩٨٣) مسرحيته »عربة ترام اسمها الرغبة« لصديقته الممثلة جيسيكا تاندي (كتبت المسرحية العام ١٩٤٧)، وهي لذلك جاءت مسرحية نسائية بامتياز، البطل المطلق فيها امرأة، وقد جعلها شخصية نفسية في غاية التعقيد. لم يخطر في بال وليامز أن مارلون براندو، الشاب حينئذ، الذي سيقف قبالة تاندي على المسرح، سيؤدي دوره بمهارة تسرق الضوء من البطلة، فيجعل من شخصية ستانلي الرجل، نداً للبطلة المطلقة بلانش.
لكن ما لا يخطر في البال أن لا يحفل مخرجٌ البتة بشخصية بلانش، فيجيء بممثلة تلفزيونية باردة، لن تلتفت إلى كل التعقيد النفسي الذي يكتنف الشخصية، كما تقرر التخلي عن الإيحاءات الدقيقة التي تطلّ بها الشخصية منذ اللحظة الأولى، وتعكس عبرها معناها ومشكلاتها، بل ومصيرها المأساوي الذي يندّ برأسه شيئاً فشيئاً مع استمرار العرض.
المسرحية تحكي عن شخصية بلانش التي غادرت مدينتها بعد أن ضيّعت منزل العائلة، كما ضيّعت حياتها وشرفها، حتى أنها طُردت من عملها كمدرّسة بعد علاقة غرامية مع مراهق في السابعة عشرة من عمره.
تلجأ بلانش إلى بيت شقيقتها في مدينة أخرى، حيث لا ملاذ آخر لها، وحيث يعلن زوج أختها ستانلي ضيقه بها، فيبدأ البحث في ماضيها بدءاً بالسؤال عن ضياع بيت الأسرة، وصولاً إلى قصص ملاقاتها عشاقها في أحد الفنادق الرخيصة. حين يصل ستانلي إلى ماضي بلانش يشي بها إلى صديقه ميتش الذي كان وقع في غرامها وينوي الزواج بها، يكفّ هذا عن قراره بالزواج منها، بل ويحاول اغتصابها، مثلما يغتصبها زوج أختها بالفعل.
لا تغيب علامات العذاب الذي تعيشه بلانش عن المشهد، كما لا تغيب رغباتها التي تأخذ بها إلى هنا وهناك. فتكون الخاتمة بمجيء طبيب يقودها إلى مشفى الأمراض العقلية. الرغبة هنا بطل مطلق، وهي مثل عربة تقود الشخصيات برمتها، لا بلانش وحدها، من حيز إلى آخر، وفي حالة بلانش من مأزق إلى آخر. الرغبة في »عربة ترام..« أشبه بالقدر في المسرحيات الإغريقية، مثلما الماضي أيضاً في مسرحيات وليامز هو نوع من قدر يسيّر ويتحكّم بمصائر الشخصيات.
شرطية الفن
وإذا كان نص وليامز يحكم على بلانش بمشفى الأمراض العقلية، فإن العرض الذي أخرجه غسان مسعود قد اختار نهاية أخرى؛ حيث الطبيب يتحول هنا إلى ملاك موت يرتدي الأبيض، يمد لها يده فتمضي إليه وهي تقول ما معناه أن الغرباء هم دائماً من كان يحتضنها، فتنصاع وتمضي مع الغريب/ الموت برفقة امرأة هبطت في غير موقع من العرض مع باقة زهور كما لو كانت شبحاً.
فلا ندري سبباً لهذا التعديل في نص وليامز، وما داعي الترميز هنا طالما أن خطوط العمل تأخذه إلى تلك النهاية بشكل مبرر وسببيّ.
نعرف في نص وليامز من أين تأتي الأشياء والشخصيات، وكيف تأتي نهاياتها، أما في عرض مسعود، وهذا هو شأن مسارحنا عموماً، فيمكن لأي حلّ أن يهبط من أي سماء بحجةِ شرطيةِ الفن وتجريبيته، من دون أن يحفل المخرجون بمنطقٍ ما يركّب هذه الأشياء. فقط في مسرح كهذا تستطيع ممثلة أن تقول »لا أحب الضوء المتوهج« فيما هي تشير إلى مصباح في غاية الخفوت، أو أن تقول لزميلتها »عليك أن تخففي من وزنك« فيما هي تخاطب امرأة ناحلة أو تكاد.
أو أن تضيق شخصية بهذا المكان البائس بينما تشير إلى مكان في غاية الأناقة. لا يفوتنا هنا أن نشير إلى استفادة المخرج من بعض الحلول الإخراجية للفيلم السينمائي الذي حققه إيليا كازان العام ١٩٥١ بالعنوان نفسه »عربة ترام اسمها الرغبة«، خصوصاً حين صمم سُلّماً يصعد إلى بيت الجارة، هو نسخة طبق الأصل عن سلّم الفيلم (الديكور لنعمان جود).
يحتوي عرض غسان مسعود بالطبع على بعض ميزات إيجابية، كلها تقريباً على الهامش، كأداء الممثلين الثانويين الحيوي (لرنا شميس وجمال سلوم وغسان عزب) الذي يبقى في البال أكثر مما تبقى بطلته بلانش (لعبتها سلافة معمار)، وكذلك الأمر مع ميتش (مكسيم خليل)، وستانلي (باسل خياط)، فنحن نقع مجدداً في أداء ثانوي يطغى على أداء الممثلة الرئيسية.
لكن المشكلة أن المسرحية هي هذه الشخصية، ومع عدم فهمها نصبح أمام مسرحية بلهاء لا نفهم لماذا احتفل بها الغرب إلى هذا الحدّ، وكيف عاشت كل هذه السنوات واحدة من كلاسيكيات الأدب المسرحي العالمي.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية