تتضح ملامح تسوية متزامنة بإجراءات جزئية في سوريا واليمن، والأمر يعني أن عملاً غير ملحوظ يجري في كواليس المنطقة تقوده السعودية، إلا أن هذا العمل يترافق مع إجراءات متعاكسة مع حلف جماعات تقوده إيران، وكل ذلك يجري تحت أنظار الأميركيين.
خلال الأسبوع الماضي شهدت الحدود السعودية اليمنية هدوءا غير مسبوق منذ 5 مارس ـ آذار 2015 حين أطلق تحالف تقوده الرياض عملية "عاصفة الحزم" ضد ميليشيا الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، ولأول مرة يقوم وفد من شيوخ قبائل الحوثيين في منطقة "صعدة" بزيارة السعودية، لتتم عملية تبادل لجندي سعودي أسير مقابل 7 يمنيين على صلة مع "الحوثيين" بوساطة عُمانية.
التهدئة في اليمن انعكست ـ على ما يبدو ـ قلقاً لدى إيران التي أعلنت استعدادها لإرسال قوات من الحرس الثوري للقتال إلى جانب "الحوثيين"، كما أوعزت للنظام السوري بافتتاح أول ممثلية وقبول اعتماد ممثل للحوثيين بصفة سفير.
إذا نجحت تجربة التهدئة على الحدود السعودية اليمنية فهذا يعني أن الرياض استطاعت تفتيت مشكلة "الحوثيين" واستثمرت في القوى القبلية لغير مصلحة القوى المذهبية المتحالفة مع إيران، وهي مقدمة لهزائم في مناطق ودول أخرى.
مقابل التسهيل في اليمن والرغبة في تبديل صيغة المعركة لا تبدو الرياض راغبة بعرقلة مفاوضات جنيف في جولتها الجديدة بين قوى المعارضة والنظام، وبات واضحاً وجود رغبة مشتركة لدى القوى الدولية الكبرى في متابعة المفاوضات دون الالتفات إلى تفاصيل خروقات الهدنة، ما يعني أن الهدنة تمثل تجربة أولى يجري تعزيزها بالدخول إلى تفاصيل اتفاق قبل قدوم الصيف وما يحمله من احتمال تصاعد موجة النزوح والهجرة إلى أوروبا، الأمر الذي شجع تركيا على فرض شروطها على الاتحاد الأوروبي.
بصرف النظر عن هشاشة الهدنة، إلا أنها تشكل فرصة لالتقاط الأنفاس للمعارضة والنظام الذي يصف الإيرانيون حال قواته بأنها "منهكة"، كما أن الروس باتوا قلقين من تهمة ارتكاب "جرائم حرب" يجري تجهيز ملفاتها في أكثر من عاصمة وهم يجرون جولات تفاوض مع الأوروبيين والقوى الكبرى حول أزمة أوكرانيا.
الأسبوع الفائت كان رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو يتحدث من طهران عن ضرورات تعاون البلدين، فيما يريد الإيرانيون خفض مستوى التوتر لحصد نتائج الاتفاق النووي الاقتصادية بعد جولة روحاني الأوروبية، وقد روجوا لانتصار الإصلاحيين في الانتخابات البرلمانية، وهذا الأمر يستدعي تخميد الصراع مع المحيط وترك منافذ للحوار.
كثيرون من الإيرانيين وأخص الإصلاحيين يعارضون مشروع إيران التوسعي، وقد هتفوا ضد الدور الإيراني في لبنان وحتى غزّة قبل سنوات، وليس واضحا كيف ستتم مواءمة مزاج الشارع الذي صعد بالإصلاحيين مع نفوذ الحرس الثوري "المتشدد" والذي يصدّر ضباطه إلى دول أخرى للقتال مع قوى مذهبية.
الواضح هو أن الرياض وطهران تتسابقان في إظهار نموذج الحكم المرن، وتغيير فكرة العالم عن سيطرة "السلطة الدينية" والتيارات المتشددة، لكن كلا الطرفين يقودان توجها سياسياً أكثر تشدداً في الملفات التقليدية، فالسعودية استطاعت التأثير في دول الخليج وفرض قرارات على مستوى أوسع ضد "حزب الله" اللبناني، ويبدو أن توقيت التحرك يشير إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد مساومة ملفات ما استدعى مثل هذا التصنيف.
سيتضح شيء من المزاج الدولي حيال الملف السوري خلال المفاوضات التي يفترض أن تستأنف مطلع الأسبوع القادم، وليس ممكنا تنفيذ تصعيد غير مسبوق كما حصل قبل الجولة الماضية، وهذا يعني أن الروس منحوا الأسد فرصة أخيرة لتحسين شروطه، لكنهم لا يرغبون بأن يظهروا على الدوام بصيغة الأب الشرعي لهذا النظام، لذلك سيكون هناك تدوير في الزوايا، وسيكون مصير الأسد النقطة الأكثر سخونة لأنها ستكون في صلب قضايا مرحلة الحكم أو "الحكومة" الانتقاليين، وبالتالي فإن أي عملية تسهيل لاتفاق يضع حدّا للحرب وكذلك لتصاعد موجات النزوح سيكون رحيل الأسد "عقدة المنشار" فيها.
إذن يمكن فهم ما يجري بمثابة مرحلة لتصفية النهج المتشدد دينياً وسياسياً في المنطقة، وضمان حرب على "داعش" وإضافة "جبهة النصرة" وربما فصائل أخرى لن يكون مجاناً، فالقوى الشيعية ستوضع أمام استحقاق مماثل بدأ بتصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية، وربما ستتم إضافة "الحشد الشعبي" في العراق ومن يتبقى من الحوثيين المصرّين على القتال ضد "شرعية" الدولة في اليمن، وربما ترى بعض القوى ومنها الولايات المتحدة أن توسيع طيف الأطراف المصنفة على لوائح الإرهاب يؤخر من معركة القضاء على "داعش" لكن واشنطن لا تبدو مستعجلة على إنهاء ظاهرة "التطرف" وتعطي لهذه المعركة مُهلاً أطول مما ترغب دول المنطقة، وهي تتعارض في موقفها أيضاً مع الأوروبيين.
لقد وضعت الرياض نفسها في صف المحارب للجماعات المتطرفة وفي صف الحليف لمقاتلي "الجيش الحر" والمعارضة المعتدلة في سوريا، فيما وضعت إيران نفسها في صف "حزب الله" و"نظام الأسد" و"الحشد الشعبي" و"الحوثيين"، وبقيت "داعش" و"النصرة" بلا حليف ولن يتم تصفية الفصيلين الأخيرين قبل إنهاء معركة التصنيف، إما بتسويات كما فعل قسم من "الحوثيين"، أو بتوسيع لائحة الميليشيات والقوى المستهدفة، وتبدو الرياض مرتاحة أكثر من طهران في هذا الجانب.
بجميع الأحوال .. مازال الحرس الثوري في سوريا فيما الطائرات السعودية تربض في "إنجرليك" مقابل طائرات روسية تذرع كامل مساحة سوريا، إلا أن الحرب التي لا تؤدي إلا نتائج اقتصادية أو سياسية في مفاهيم الدول هي عبثٌ واستجلاب لكوارث تصنعها تطورات هذا العبث، لذلك وطالما أن طبيعة المصالح بدأت تتضح، بات ضرورياً تثبيت تلك المصالح بأدنى خسائر.
السؤال: هل يعتبر "ترحيل" الأسد واحدة من آليات تثبيت مصالح الروس، يبدو الأمر غير واضح، ما يعني أن الأسد سيوضع على طاولة التفاوض دون رغبة من موسكو وواشنطن في إنهاء حكمه سريعاً.. إلى ذلك الوقت ستتغير الملفات وربما السياسات وكذلك التصنيفات.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية