لم يكتفِ السوريون بموتهم في بلادهم، فقد حملوا معهم كل "التركة" إلى بلاد الغرب، لم يفكر أحد بمصاعب الحياة في المجتمعات الجديدة بقدر تفكيره بالنجاة بأطفاله عبر رحلة مضنية إلى الضفة الأخرى.
ليست لديّ إحصائية مؤكدة بعدد السوريين الذين وصلوا إلى أوروبا لكنهم باتوا بمئات الآلاف، وكل واحد فيهم قصّة تستحق التأمل، حكايات أغرب من "ألف ليلة وليلة" بين زواج وطلاق، وثقافة ودين، وقصص عن صراع بين قيم وعادات جديدة وتقاليد وأعراف.
هل سمعتم عن الأب الذي أرسل طفله ابن السنوات الست وحيداً عبر البحر ليحصل على لجوء في إحدى الدول الأوروبية، وبعد أن تحقق الأمر وتم لمّ شمل العائلة قام الطفل بإنكار أبيه مفضلاً الحياة ضمن أسرة أوروبية لدرجة أنه خاطب أبويه قائلاً "أنتما عندي لا تزيدان قيمة عن الأسرة التي أعيش في كنفها" وزاد على ذلك قوله لأبيه "لو أنك تحبني فعلاً لما أرسلتني بالبحر وحيداً".
لا تستغربوا فالطفل محق فيما قال، لكننا بحكم إيماننا بقوة الانتماء البيولوجي لا يمكننا تقبل أن يقول لنا أحد أطفالنا مثل هذا الكلام.
هل سمعتم عن الزوجة التي ما إن وصلت إلى أوروبا مع زوجها الذي يكبرها بعشرين عاماً حتى قامت بأخذ ما لديه من مال مع ما خصصته الحكومة لهما من مساعدات وتركته وحيداً ليموت وحيداً.
نعم ستفعل أي فتاة مثل ما فعلت تلك الزوجة عندما يتأسس الزواج على مصالح تختلف عن المصالح المستجدة في بيئة جديدة.
هل سمعتم عن الرجال الذين هاجروا تاركين زوجاتهم وأطفالهم في مخيمات لجوء في الأردن وتركيا ولبنان لأن لديهم جوعاً للعلاقات العابرة ولحياة "الصعلكة" واللامسؤولية.
نعم سيحدث ذلك عندما لا يستطيع الإنسان تجاوز حالة الدهشة من قيم الانفتاح بعد أن يكون قد أمضى خمسين عاما من حياته مثل "ضبٍّ" بين جحرٍ وصحراء، فيهيم على وجهه دون أن يعلم ما الذي يدور حوله، وربما لا يبادر نفسه بسؤال "من أكون؟" ليستعيد بعض التوازن في عالمه الجديد.
هل سمعتم عن شباب بعمر الورود اصطادهم نساء خمسينيات وستينيات يعملن في جمعيات ومؤسسات لمساعدة اللاجئين، حيث فضل هؤلاء الشباب أن يحولوا إلى فحول فراشٍ لعجائز يبحثن عن أجسام ساخنة مقابل ملبس ومسكن وطعام.
هل سمعتم عن المهاجر الذي بات لا يفوت فرصة للطعن ببيئه المحلية الأصيلة وبدينه لكي ينال إطراء مجتمعه الجديد معتقداً أنه ذلك يزيد من قيمته ويقنع الآخرين بأنه لا ينتمي إلى "داعش" و"ماعش"، أو هل سمعتم بالمهاجر الذي بات يدعو جيرانه من الأوروبيين للدخول في الإسلام وهو لم يستطع بعد تعلم اللغة من مستوى مبتدئ، كما أنه لا يفوت فرصة بالإعراب عن اشمئزازه من أكلة لحوم الخنزير.
هل سمعتم عن النساء اللواتي بطشن بأزواجهن منذ وصولهن إلى عالم حقوق المرأة، وكأنهن يقطعن تذاكر ذهاب بلا عودة مع عوالمهن القديمة، مع تقاليد الأسرة، والبلدة، والحي، والدين، ودون تسامح ودون أن تفكر إحداهن بإمكانية أن يتحقق التغيير المطلوب دون ضحايا.
لكن نعم سيحدث أن تفعل النساء هذا وهن يشعرن بالرغبة بالانتقام من تاريخ القبيلة ومن ذكرها، من مفهوم "الديك" والدجاجات، وحتى من مبادئ الدين التي أحلت للرجل أربع نساء فعاشت الزوجة في خوف لا ينتهي من "الضرّة" فيما عاش الزوج على قلق لا ينتهي جرّاء المطاردة.
نعم يحدث هذا عندما نولد ونكبر في بيئات لا تحللّ ولا تفكر في نص ولا معنى، ويحدث عندما نكون مجرد مسلمين بيولوجيين عند الأزمات ومسلمين مؤمنين عندما "يحاس الحيس" ويكثر الحديث عن الأمة وحقوقها ومظالمها.
كيف يمكن أن تقنع من كان يفتتح نهاره على وجبة الإفطار بطبق فول يقتل جملاً بأن حبةً من "الكرواسان" قد تكفي، نعم نحن إلى حد بعيد نقترب من فكرة الإنسان الفول والإنسان "الكرواسان"، ربما لن ينفع "الكرواسان" هناك في بلادنا حيث الحياة أصعب وأرحب في ذات الوقت، فنحن نأكل وفق طقوسنا لا وفق ما نحتاج، وألف طبق فول في باريس لن ينفع مادام في ذهننا رصيف "جزماتية الميدان" وطاولات الأكل التي تفرش منذ الفجر ليرتادها الزبائن.
يحتاج المهاجرون إلى التركيز في حياتهم الجديدة، لماذا جاؤوا، وما الذي يحملونه معهم، وماذا سيفعلون غداً، وما هي قدرتهم على التأقلم أو تغيير ما هو موجود حولهم.
أيها السوري الجميل ليس ما سبق حالة عامة، فهناك المبدعون والمتسامحون والراغبون في العيش بلا تعقيدات، لكن التقديرات لحالات الانفصال الزوجي والانفصال النفسي والروحي تشي بأن المهاجر يكاد ينشطر إلى نصفين، ويكابد غربة روحه محملاً معه أطفاله مخاطر هذا الانفصال وتلك المكابدة.
في النهاية ... عجوز من قريتنا كانت تسكن مخيم الزعتري في الأردن قالت لي: "يا ميمة الغربة تضيّع الأصل" .. أنا شخصياً أشعر بإهانة الزمن، لكن لا أستطيع أن أنكسر طالما أنني أدافع عن أسرة فيها زوجة وأطفال .. يمكننا أن نبحث عن هدف .. يمكننا أن نعتبر الأسرة وطناً أصيلاً وهي كذلك .. ويمكننا أن نجنب أطفالنا همّ الاستماع يوميا إلى "أرشيف" مأساتنا .. يمكننا أن نعيش .. لكن علينا أن نتذكر دائماً عندما نهاجر بأن الحياة ليست كما نتصور بالضرورة .. وإذا كنت تفضّل حرّ البلاد فهذا لا يعني أن تحمّل المدن الباردة مسؤولية وجودك فيها.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية