كان مفهوماً أن توسع روسيا هجماتها مع النظام ضد مدن سورية وفصائل للجيش الحر قبيل وصول الوفود إلى العاصمة السويسرية للمشاركة في جنيف 3 والذي يرى فيه مراقبون فرصة أخيرة لبدء تفكيك "الصراع" في سوريا، لكن انفلات عقال سلاح الجو والدبلوماسية الروسيين يظهر بلا شك بأن هدف التصعيد ليس تحقيق مكاسب ما قبل وقف إطلاق النار المتبادل بل تصفية الطرف المفاوض مادياً ومعنوياً، أو سياسياً وعسكرياً، ويتبدى هذا الهدف في سلسلة هجمات جوية استهدفت مواقع ومدن خارجة عن سيطرة الأسد ولا تتواجد فيها عناصر لتنظيم الدولة كما هو الحال في ريف اللاذقية الشمالي وريف درعا وإدلب ومناطق في حلب وريف دمشق، ويترافق هذا التصعيد الجوي مع حملات برية في الشمال والجنوب أسفرت عن تقدّم لقوات مختلطة من جيش النظام وميليشيا شيعية عربية وغير عربية في الشيخ مسكين بدرعا ومناطق في ريف حلب الشمالي.
يبدو أن الطيران الروسي وقدرته على التدمير والحرق يزيد شهية الروس والإيرانيين ونظام الأسد لتغيير الخارطة وتثبيت نقاط اشتباك جديدة، حيث جرت عملية هجوم واسعة في "عتمان" بريف درعا كما تجري محاولات لاقتحام معضمية الشام وقرى وبلدات في ريف حلب حيث ارتكب الطيران الروسي آخر مجازره بحق المدنيين كما هو الحال في عندان وحريتان.
ما يجري على الأرض يخالف تماماً كل التوقعات المتفائلة بخلق أرضية للتفاوض، أو التأسيس لمرحلة الحل عبر مفاوضات سياسية بين مختلف الأطراف، كما يزيد من التشاؤم بشأن مستقبل المنطقة برمتها بعد أن وصلت الظروف في سوريا إلى مرحلة القاع، أو ما يمكن وصفه بعقم أفق الحل.
وليست أقل بعثاً على التشاؤم التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والتي قال فيها إن بلاده لن توقف عمليات القصف "حتى هزيمة الجماعات المسلحة"، متحدثاً عن أولوية محاربة "جبهة النصرة" ومتجاهلاً في تصريحاته تنظيم الدولة "داعش" حيث تتهم روسيا بعدم استهدافه وتوجيه ضرباتها لمجموعات تمثل المعارضة "المعتدلة"، ويبدو أن الروس لا يدعمون المفاوضات لأجل الحل بل يتعمدّون العرقلة بإجراءات عملية، وبإدخال عناصر مربكة للحل مثل رفض الاعتراف بجماعتي "جيش الإسلام" و"أحرار الشام".
إذن هناك شعور بأن النظام لا يتعرض لأية عملية ضغط حقيقية تجبره على السير في الحل السياسي عبر المفاوضات، بينما يجري الضغط على المعارضة بشكل عملي، كما أن كل ما يمكن اعتباره لهيئة التفاوض المنبثقة عن مؤتمر الرياض مثل استبعاد الحزب الديمقراطي الكوردي بزعامة صالح مسلم وفرض "جيش الإسلام" وأحرار الشام" في الوفد المفاوض لا تشكل فارقاً عملياً بل حوَّلها الروس إلى نقاط إشكالية تزيد في تعقيد المشهد، وليس بعيداً عن ذلك الموقف الرخو للدبلوماسية الأميركية وتقديمها تعهدات لم يجرِ اعتماد أي منها بعد مضي أسبوع على تبنيها كشرط لموافقة المعارضة على الانضمام إلى طاولة جنيف.
بات واضحاً أن واشنطن وموسكو توافقتا على فرض انعقاد المفاوضات دون أن تكون هناك خارطة طريق تضمن استمرار المفاوضات، وليس شرطاً وقف المفاوضات لإثبات فشلها، إذ إن المطلوب هو "صورة" وليس "مضمون" المفاوضات، وهو ما يعرفه النظام وتجهله المعارضة.
ما يجري اليوم هو مجرد عملية "تقطيع وقت" حتى موعد انعقاد اجتماع مجموعة دعم سوريا في ميونيخ بألمانيا يوم 11 فبراير ـ شباط الجاري علما أن الاجتماع السابق لهذه المجموعة في نيويورك يوم 17 نوفمبر ـ تشرين الثاني العام الماضي تبنى خطة للعمل بناء على مقررات مؤتمرات ولقاءات جنيف وفيينا السابقة لكن شيئا لم يتحقق في ظل عدم وجود آلية للمتابعة والإبقاء على بنود الحل ضمن القرار 2254 تحت الفصل السادس، أي أنها قرارات "منزوعة الدسم" وليست هناك قدرة على تنفيذها ومتابعتها من قبل الأمم المتحدة.
الأميريكون غير واضحين، والأوروبيون ضعفاء، والعرب مشتتون، والروس والإيرانيون يشعرون بنشوة الانتصار فموسكو تجلس على رأس الطاولة الدولية لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وروحاني يجبر الأوروبيين على تغطية منحوتتاهم بـ "التشادور" وينتزع اتفاقات بمليارات الدولارات من كبريات شركاتهم.
هناك طرفان فقط مازالا قادرين على التأثير بشكل محدود، هما السعودية وتركيا، لكن ما يجري في العالم يدفعهما إلى عدم الثقة بكل التحالفات، الأمر الذي يعني بأن تحركهما تجاه الملف السوري سيبقى في الحدود المرسومة مسبقاً خلال الفترة الحالية بما لا يكسر المعادلة على الأرض، وهذا لا يعني أن "الستاتيكو" القائم مستمر لفترة طويلة لأن حالة العدمية و"التيبّس" حتى على المستوى الإقليمي تجعل احتمال الاشتعال أمراً وارداً في أية لحظة.
هناك مستوى غير مسبوق من الاحتقان في المنطقة، وعملية زرع قواعد روسية ومجموعات إيرانية في سوريا تثير حساسية الرياض وأنقرة، وبطبيعة الحال فإن الأتراك أكثر شعوراً بالغضب نظراً لأن الروس ضربوا القواعد الاجتماعية والنفسية للأتراك بتهجير التركمان وقصف مواقع كان يفترض أنها ضمن المنطقة العازلة التي طالبت بها تركيا وتمنَّعت واشنطن لحين أصبح الروس اللاعب الأول فيها ليس جواً فحسب بل إن ضباطهم يديرون المعارك البرية في شمال اللاذقية، خلافاً لموضوع الحزب الديمقراطي الكوردي الذي أصبح ورقة بيد روسيا مع ما هو معلوم من حساسية لدى الأتراك في هذا الملف.
مع ما سبق من احتقان فإن فشل جنيف 3 يعني حرباً مؤكدة لا أحد يعرف ملامحها النهائية خاصة وأن الأميركيين داخلون على مرحلة "البطة العرجاء" حيث بدأت الجولات الأولى للانتخابات الرئاسية، وسيكون البيت الأبيض منشغلاً وعاجزاً حتى منتصف أو نهاية 2017 على أقل تقدير.
هناك إحساس عميق لدى قوى محلية وإقليمية وحتى دولية بأن إسرائيل هي الأخرى تشكل عائقاً أمام إنهاء مأساة السوريين، وما يعزز هذا الشعور تنسيقها مع الروس وترحيب سياسييها بتقسيم سوريا حيث إن ما جرى ويجري يريحها لسنوات طويلة ويزيد من سطوتها ويحقق تفردها في المنطقة، وهذا الإحساس ربما سيكون عاملاً حاسماً في التغيير إذا استمر الضغط الروسي والصمت الدولي على الجرائم المرتكبة بحق السوريين، إذ يمكن أن تكون إسرائيل هدفاً لمجموعات تشعر بانعدام إمكانية الحل، مع الإصرار على إعادة إنتاج النظام بعد خمس سنوات من القتل والتهجير.
يتحدث الإعلام اليوم عن تدريبات تجريها إسرائيل لمحاكاة حرب برية مع "حزب الله"، لكن المعطيات تقول بأن إسرائيل تركت "حزب الله" يعزز قدراته في لبنان، ولم تكترث لوجود إيران على حدودها ما يعني أنها تسعى لضرب النسيج الاجتماعي للمجموعات البشرية المتواجدة في محيطها لأنها تخشى نموذجاً موسّعاً عن "حماس" لكن بدعم وحاضنة من السنّة، وهذا يتحقق ويتوافق مع عملية العبث بالديموغرافيا السورية التي ينفذها "حزب الله" خصوصا في دمشق وريفها وفي حمص وريفها، وعلى الأغلب فإن صورة الصراع بين "حزب الله" وإسرائيل هي في جوهرها تحالف تحكمه مصالح الطرفين وهو ما يتحقق أيضا بين إيران والولايات المتحدة بعد مفاوضات سرية وعلنية أفضت إلى فرض الاتفاق حول الملف النووي.
ستستمر مفاوضات جنيف وسيجري الضغط على المعارضة لمنع انسحابها .. ستبقى الطاولة مفتوحة حتى لو انسحبت هيئة التفاوض المنبثقة عن مؤتمر الرياض.. لكن الأفق ـويا للمفارقةـ يقود إلى حرب على نطاق أوسع، فهل تتحمل المنطقة مزيداً من الضغط واللاعبين أم أن ساعة الحقيقة قد حانت .. حرب أم حلّ سياسي .. لعل الحرب أقرب فرائحتها تملا المكان؟
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية