انطلق مهرجان محمد الماغوط المسرحي الثاني في السلمية مؤكداً حضوره ضمن زحمة مهرجانات توزعت في العديد من محافظات القطر ومدنه دون أن تنجح في إخراج المسرح السوري من إشكالاته المزمنة وهو ما يمنعنا من تجاهل ذلك الإصرار العنيد على متابعة اللعبة باعتبارها من أخطر الألعاب التي اكتشفها الإنسان ليس لأن المسرح فن راقٍ فحسب بل لأنه فن ديمقراطي أيضا فهو الفن الوحيد الذي يقوم على الحوار بل ويعلمنا الحوار أيضاً.
لأننا إزاء العرض المسرحي لا نتابع الحوار بين الممثلين على خشبة المسرح فقط بل يمتد الحوار ما بين الخشبة والجمهور أيضا وما بين عناصر هذا الجمهور أو المتفرجين فيما بينهم دون أي وهم أو ادعاء بأننا في العرض المسرحي سنحصل على أجوبة كافية لتساؤلاتنا أو حلول ناجعة لمشاكلنا حتى أننا نعلم عجز المسرح وعروضه الكثيرة عن اكتشاف حلول لأزمته هو كفن لكنه الحوار الذي يزرع فينا دودة القلق وهاجس التساؤل والجرأة على الحياة والمغامرة بآن معا.
فإذا كان مابين الدورة الأولى لمهرجان الماغوط المسرحي ودورته الثانية عام ونيف نستطيع أن نتساءل حول مدى نجاح هذا المهرجان ومدى قدرته على اختيار وتقديم ما هو أفضل أو ما يساعدنا على اكتشاف ظلال جميلة للحياة ومساحات أرحب للأمل.
قدم المهرجان خمسة عروض تغيب آخرها وهو العرض الجزائري 'الجيفة' من إخراج عبد المالك بوسا هل عن نص للكاتب الراحل سعد الله ونوس واستعيض عنه في اللحظة الأخيرة بعرض 'الحقيقة ماتت' لاتحاد طلبة حلب بتوقيع سامر السيد علي مخرجاً ولم يكن هذا الخيار موفقاً لكنه الخيار الوحيد الممكن على ما يبدو وهذا يحمّل الجهة المنظمة للمهرجان مسؤولية التأكد من جاهزية كل العروض المشاركة ومتابعتها قبل اللحظة الأخيرة.
وبشكل خاص العروض الخارجية. بينما عرض 'المزبلة الفاصلة' للمخرج هاشم غزال عن نص لعباس أحمد الحايك، فقد أحالنا بالضرورة لمسرحية 'الديك' التي كتبها طلال نصر الدين مع فارق كبير في الرؤية الدرامية ومقولة العرض التي شكلت مطباً كبيراً للمخرج هاشم غزال كما تضافرت التقنيات المتاحة من صوت وإضاءة في إضعاف سوية هذا العرض. بالمقابل تميزت ثلاثة عروض قوية بدأت بعرض الافتتاح 'المهرج' لفرقة اتحاد شبيبة الثورة ـ فرع دمشق ـ والذي جيء به ليس لأنه حظي بجائزة أفضل عرض في مهرجان الشباب المسرحي الثالث وأفضل إخراج وأفضل ممثل في مهرجان الشبيبة الفرعي أيضاً. بل لأنه مأخوذ عن نص للمحتفى به الراحل محمد الماغوط خاصة وأن سلمية البلدة المضيفة لم تشارك بأي عرض في هذه الدورة. ويعتبر نص 'المهرّج' من أوائل النصوص التي كتبها محمد
الماغوط عام 1968، لكنها ككل أعماله المسرحية والدرامية اللاحقة كانت مشاريع أعمال تذخر بأفكار الماغوط وانتقاداته اللاذعة بل وسخريته الجارحة أيضاً.
لكنها كانت في الوقت ذاته تفتقر إلى البناء الدرامي وهو ما يُتيح لأي مخرج أو درامتير أن يستعيد نص الماغوط بطريقته وأعتقد أنّ المخرج غزوان قهوجي قد نجح في ترهين النص للحظة المعاشة سياسياً واجتماعياً حين جعل صقر قريش السادر في أبديته يكتشف أنّ العرب أضاعوا الأندلس وفلسطين أيضاً وصولاً إلى العراق. وحين ربط بين حكايات المهرج وشكوى الزوجة المتداخل مع دقات جرن الهاون.
نص المهرج ينتمي بجدارة إلى زمنه الذي أعقب النكسة الحزيرانية لكنه يتفوّق على كل نصوص تلك المرحلة في جرعة السخرية من الواقع والذات ومرارتها أيضا حتى أنّ صقر قريش العائد إلينا لينقذ العرب مما حاق بهم يتحوّل ببطء إلى مهرج أيضاً بعدما استوقفته دورية حرس الحدود التابعة لأحد الأنظمة لأنه لا يحمل أية هوية أو جواز سفر ويبقى في السجن حتى يأتي السفير الإسباني لاستعادته في صفقه مع مسؤول المركز الحدودي الذي احتجز فيه.
المخرج غزوان قهوجي اعترف أنه يخاف لذلك لم يستطع السير بصقر قريش إلى مصيره الماغوطي كمهرج خوفاً من اعتبارها إشارة أو دلالة على أي صقر راهن دون أن ينقص ذلك من الجرعة الانتقادية الساخرة للعمل. هذه الجرعة الكفيلة بحمل العرض في كثير من الأحيان لكنني اعتقد أنّ أداء الممثلين وبشكل خاص عثمان أبو العمرين بدور المهرج شكل رافعة حقيقية للعرض. فهو كان يلعب في حين كان باقي الممثلين يؤدون بشكل متميّز وهذه المساحة من اللعب أغنت الفرجة البصرية للعرض مع أنها سارت باتجاه التهريج في كثير من الأحيان.
في اليوم التالي قدّم تجمع 'ميماس' المسرحي من محافظة حمص عرض 'تلك الرائحة' من إعداد وإخراج محمد بري العواني عن نص 'الزنزانة' للكاتب هارولد كمل من جنوب أفريقيا نص يدين التفرقة العنصرية بين البيض والسود في نظام الأبارتيد العنصري البائد لكنّ المخرج اتكأ عليه لإدانة أي عنف أو تمييز في عالمنا الراهن. وقذف بممثله الأول مارك 'تمام العواني' إلى خشبة خالية من أي ديكور أو علامات لنكتشف مع حركته وتوسع دائرة الضوء قليلاً وجود شخص ثاني بطرس'بسام مطر' يبول قرب الجدار في عمق المنصة ثم نكتشف مع تذمر مارك من الرائحة وحوارهما اللاحق أنهما في زنزانة وبينما دخل مارك بتهمة تزوير عملة فإنّ بطرس سجان لكنه قتل أحد الملونين أثناء التعذيب فوضع في السجن وهو لا يزال مؤمناً أنّ الحكومة على حق وأنّ الشرطة تقوم
بواجبها الوطني في قمع الشيوعيين والزنوج وهي إشارة تتكرر بما يُتيح لنا تحميل التناقض أكثر من بعد بل يُتيح لنا قراءته في مستوى تناقضاتنا الأيديولوجية وفي تناقضات الفرد مع أي نظام سياسي.
لكن النص حين يُجري هذا التناقض ضمن شخصين من البيض فقط نشعر بأنه أراد تعرية هذا التناقض من داخل كل شخص منا وقد نجح مارك بأن يعري بطرس من أوهامه وأوهام الأيديولوجية التي دفعته لقتل شخص لمجرّد أنه أسود.
وقد أشار المخرج أنّ اختياره للنص ينطلق من مأزق التقسيمات التي نعيشها في واقعنا العربي تقسيمات جغرافية أثنية دينية أيديولوجية سياسية وكلها تقوم على رفض الآخر ورفض صيغة الحوار معه.
في عرض 'رباعية الموت' التي قدمها فرع شبيبة الثورة في حماة بتوقيع يوسف شموط للإعداد والسينوغرافيا والإخراج عن نص 'الموت والعذراء' للكاتب التشيلي 'ارييل دور فمان' الذي كتب هذه المسرحية لإدانة نظام بينوشيه الديكتاتوري الذي اغتصب السلطة وهو يتكئ على موسيقى 'شوبرت' التي كتبها بذات الاسم عام 1824 حين كان يمر بأزمة نفسية وعصبية جعلته على تماس مع فكرة الموت.
وكيف تصبح هذه الموسيقى أداة لدى النظام الفاشي الذي مارس التعذيب ضد السجناء هذا التعذيب الذي يصل مداه حد اغتصاب 'باولينا سالاس' على أنغام 'شوبرت'. بلغت ذروة العنف الأخلاقي والجنسي الذي دفعها بعد خمسة عشر عاماً إلى حدود الانتقام.
هذا العمل سبق وقدمه المخرج العالمي 'رومان بولانسكي' في فيلم 'الموت والعذراء' عام /1994/ وقُدّم في مئات العروض المسرحية في العالم وعندنا قدمه المخرج هشام كفارنة في عرض جميل لفرقة قومي دمشق لكنه يركز على نزعة التسامح كمقولة والعجز كسمة للأبطال.
فيما بدا عرض شموط أكثر اهتماماً بمسألة الانتقام فالزوجة المغتصبة لا تطلب من المجرم أكثر من الاعتراف بفعلته الدنيئة وبينما ظهر الزوج رجل القانون في بؤرة العجز والتردي النظري كانت هي تسير خطوة بخطوة نحو هدفها حتى عندما تلقي بالمسدس في نهاية العرض وتظلم المنصة فإننا نسمع صوت طلقة هي صوت العدالة.. صوت التاريخ صوت انتقام المسحوقين والمغتصبين عبر التاريخ.
وكان العرض مفتوحاً عبر الزمان والمكان على الحالة الإنسانية التي تتجاوز حدود التشيلي وديكتاتورية بينوشيه إلى إدانة كل ديكتاتور وأي قمع أو اغتصاب لحرية وإنسانية الأفراد وكرامتهم. ''' لوحظ غياب راعي المهرجان الدكتور رياض نعسان آغا وزير الثقافة وغياب أي تمثيل لمديرية المسارح والموسيقى في حفل الافتتاح بوصفها
شريكاً في تنظيم هذا المهرجان بينما نجد أن مجموعة 'ماس' الاقتصادية التي تموّل هذا المهرجان والكثير من مهرجانات المسرح ونشاطات البيئة في سورية حرصت على المشاركة في كلمة طالت بعض الشيء.
هذه الاستطالة حكمت أغلب فقرات برنامج الافتتاح من كلمات ترحيبية إلى عرض لفرقة عراضة شعبية وصولاً إلى فيلم سينمائي محلي 'بمعنى سلموني' أعتقد جازماً أنّ سويته الفكرية والفنية لم ترتق لمستوى المهرجان وأثرّت سلباً على تلقي الجمهور ومتابعته اللاحقة لعرض 'المهرّج' حتى أنّ البعض تمنى لو فصلت إدارة المهرجان حفل الافتتاح بكامله عن أيام العروض المسرحية.
أما في نهاية المهرجان فقد جرى تكريم كل من فنان الشعب رفيق السبيعي والفنانة الكبيرة صباح الجزائري مع الشاعر المسرحي أحمد خنسة والأستاذ علي أمين الذي سبق وساهم في إطلاق بواكير الحركة المسرحية في مدينة سلمية منذ 1962، كما كُرم السيد بدر الدبيات الذي عمل تقنياً في المركز الثقافي في سلمية منذ عام 1978، واستطاع بدأبه أن يتعلم بشكل ذاتي كل تقنيات الصوت وأن يؤرشف كل المهرجانات الشعرية التي أقيمت في هذا المركز حتى بعد تقاعده من الوظيفة. بعد ذلك ألقت لجنة التحكيم بيانها الختامي المشفوع بجملة من التوصيات أهمها :العمل مع الجهات الأهلية والرسمية في مدينة سلمية على تخصيص قطعة من الأرض لبناء مسرح يستوعب طاقات هذه المدينة والنشاطات الفنية والمسرحية التي تستضيفها. وجرى أخيراً إعلان الجوائز كالتالي :
1 ـ أفضل عرض لمسرحية المهرج
2 ـ أفضل إخراج غزوان قهوجي عن مسرحية المهرج
3 ـ أفضل سينوغرافيا لسعيد حناوي عن مسرحية المهرج
4ـ أفضل ممثلة يارا بشور عن دورها في مسرحية 'رباعية الموت'
5ـ أفضل ممثل مصطفى جانودي عن دوره في مسرحية 'المزبلة الفاضلة'
6 ـ جائزة الجمهور كانت لعرض 'رباعية الموت' من إخراج يوسف شموط وأخيراً قيل ويقال الكثير من الملاحظات هنا وهناك.
ملاحظات في التنظيم وأخرى حول المسرح وثالثة بشأن التقنيات وقد ننتقد هذا العرض أو ذاك لكن الأهم من كل ذلك أن خمسة عروض أغلبها جيدة قدمت في تلك المدينة المنسية على تخوم البادية السورية كما جرت على هامش المهرجان ورشة تدريب 'ورك شوب' للهواة التمثيل في سلمية بإشراف المسرحي القدير إيليا قجميني' وهذا شيء رائع تفتقر له الكثير من المدن والمحافظات السورية كما أعتقد بأن الحوارات التي أعقبت العروض أو التي جاءت على هامش المهرجان خاصة في ضوء مشاركة نقاد وفنانين مهمين في عالم المسرح قد ساهمت باغناء طقس المهرجان وزيادة الجرعة
التفاعلية ما بين الجمهور والعروض بشكل ملفت للانتباه
القدس العربي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية