أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

كذبة السوري المتحضر.. والكراهية*

الغوطة الشرقية - عين ترما

أزعم أن لدى السوري تراكمات من الجهل والحقد والقهر والظلم، وهو يقوم باستهلاكها منذ أربع سنوات ونصف، ولم ينته استهلاكها حتى اليوم، ناهيك عن التراكمات الجديدة التي فرضها الصراع، وأزعم أن هناك كذبة كبيرة نتداولها حول السوري المتحضر، فكل أحكامنا على السوري هي أحكام فردية، لأن إنجازاته فردية وليست نتيجة عمل جماعي، ولا ناتج وعي مجتمعي متحضر.

هي ليست فقط قصة ثقافة "كل مين بيتجوز أمي بيصير عمي" و"إمشي الحيط الحيط"، فهناك ما هو أعمق وأشد تأثيراً، فالسوري يولد شوفينياً مريضاً، إذا كان دمشقياً يسمع من أمه وأبيه شتمهم لأبناء الريف، وإن كان حمصياً فهو عدو الحموي وإن كان حمويا فالعكس بالعكس، أما الدرزي فيعتبر نفسه درجة أعلى من جاره ابن درعا، في الوقت الذي يعلم الدرعاوي ابنه المثل القائل "كل عند الدرزي ونام عند المسيحي"، والديري ابن المدينة يتندر على الشاوي البسيط، فيما الشاوي يشتم مكر الديري، هذا عداك عن أمراض الطوائف والمذاهب، فالشيعي ينتظر أقل فرصة ليلعن السني، والسني يرى عن جهل أن المسيحيين هم مجرد شريحة قليلة حياء، والمسيحي ينشأ على نظرية الشك بالآخر واعتبار نفسه مستهدفاً في كل لحظة.
مهلاً .. ما ذكرته آنفاً قد يكون طبيعة عند معظم شعوب الأرض، إلا أنه يتعاظم أو يتلاشى مع القيم السائدة، فحتى الفرنسيين يحدثونك عن قصص قديمة من الاستعلاء بين "البروفانسن" و"الباريسيان"، إلا أنهم يضحكون ويفصحون، وهم اليوم يتعاملون مع بعضهم البعض بأعلى درجات الالتزام لأن القانون لا يميز بين فرنسي وآخر، ولأن قيم الجمهورية أعلى من النزعات الفردية، وهو ما ينطبق على باقي الشعوب الغرب.

"طيب" ماذا لو تركنا الدمشقي المعتد بنفسه يعيش وحيداً دون أبناء الريف، ودون أن يحظى بتجارته التي تعتمد على الآخرين، وماذا لو لم يجد ابن درعا والسويداء سوقاً لتصريف تفاحه وخضاره، وماذا لو عاش ابن حمص في جزيرة دون أبناء حماه، وكيف يمكن أيضا لابن الدير أو الرقة أن يعيش بدون ريفه المحيط.
اللحظة الوحيدة الصادقة التي عاشها السوريون منذ نحو خمسين عاماً هي استجابتهم لنداء "الفزعة" دون إحساس بالشوفينية أو الشعوبية أو المناطقية، إلا أن هذه اللحظة تلاشت عندما ركبتها موجة الطائفية، فبعد قليل نسي المسيحي شعوره بالاستلاب، ونسي الدروز شبابهم الذين قتلهم النظام، ونسي الشيعة أن بحر السنة لم يبتلعهم، ونسي السنة بغالبيتهم أن المعركة التي اندلعت هي ضد الظلم وهدر الكرامة، أما العلوي فاستفاق على رعب ما اقترف النظام من جرائم، وما ارتكب من مظالم، وما سلب من مال، فاعتبر أن المعركة هي معركة وجود.

لقد تحركت حدود الكراهية بفعل الضغط أحياناً، وبفعل الإحساس بالظلم أحياناً أخرى، وبات الحديث عن التقسيم سهلاً، لقد تكسرت خطوط الدفاع الأولى عن القيم، وبطبيعة الحال فإن الحديث عن الوطن يلزمه أدوات ومفاهيم وممارسات، وطوال سنيِّ حكم البعث كان الوطن مجرد شعارات فضفاضة، وعندما حانت لحظة الحقيقية وجد السوريون جميعاً أنفسهم عراةً بلا هوية وبلا ملامح، قسم يتحدث عن أن تركيا هي الأقرب، حتى أنهم لم يعترضوا على أن يقتطع الأتراك جزءا من الأرض أو أن يقوموا باحتلالها.

حتى في توزيع القتل لم يكن النظام عادلاً، لأنه لم يُبنَ على قاعدة العدالة في السِّلم، لذلك فقد استعمل أسلوب الحرق والإبادة في الريف الذي لا يستطيع استثماره سياسياً أو السيطرة عليه، بينما حاصر المدن واستبد بها وبدأ يأكل عقول أبنائها ويجمع مؤيديه ومحازبيه داخلها حتى أضحت خليطاً عجيباً من الاستغلال والضياع والأنانية.

ربما تحتاج سوريا لسنوات طويلة حتى تتخلص من أمراضها النفسية الاجتماعية، وهذا التعافي مشروط أيضاً بالحالة الاقتصادية والسياسية، إذا لا يمكن بناء مجتمع سليم في بيئة يقتلها الجوع وانعدام الفرص، لذلك فإن المعركة طويلة وصولاً إلى البدء بترسيخ قيم المواطنة.

هناك نظرية تقول بأن ترك مكونات البلاد تتحارب وتتصارع يبقى خياراً منطقياً في ظل هذا التحزب القومي والمذهبي والعرقي، لأن الحرب ستطحن الجميع وصولاً إلى قناعة هذا الجميع باستحالة الاستمرار دون إعادة الاعتبار لمنظومة القيم والتعايش على أساس العدالة والحق وكرامة الإنسان مهما كان مذهبه أو انتماؤه الديني، لكن المجموعات الأصغر ستكون الضحية الأكبر بطبيعة الحال، والنظرية الأخرى لا ترى حلاً إلا بالوصاية على هذه الجزر البشرية المفككة، وهذا يفتح على احتلال وانتداب يسخر البلاد لمصالحه، أما النظرية الأصعب فهي نشوء طليعة واعية تمثل كل الشرائح تستبعد كل أسباب الصراع، وتعمل على بناء الإنسان، وهذا الخيار يحتاج لتدريب نفسي عملي على تحمل سنوات طويلة من النضال كما فعلت شعوب أخرى صولاً إلى إلغاء كل الحدود الدينية والطبقية وأمراض الشعوبية والشوفينية، ولكن ما يجري على الأرض لا يشير إلى إمكانية غلبة الوعي في المدى المنظور، والمشكلة الأكثر تعقيداً هي تعذر إمكانية تحقيق مصالحة على أسس وطنية طالما أن هناك قوى إقليمية تتصارع بدوافع مذهبية، وتمتلك أدوات ومخالب على أرض سوريا.

ربما لا تدوم المعادلة القائمة على الأرض اليوم، لكن زوالها مرتبط بمزيد من المآسي والتراكمات التي تشكلت في السنوات الأخيرة، وهي تراكمات يحكمها الدم، والثأر، والعار. 

سيدفع السوريون المزيد ثمناً لصمتهم وتواطؤهم وتعليمهم أطفالهم قيم الكراهية والأنانية والاستعلاء، وطالما أن السني يفكر بسنيته، والشيعي بمرجعيته الدينية، والمسيحي بكنيسته، والكردي بمظلوميته القومية، فنحن على موعد مع نزيف طويل، فالأوطان لا تبنى بالعقد الدينية والعرقية، والحضارة قوامها "التراب والإنسان والوقت" كما يقول المفكر مالك بن نبي وليس الجهل والارتياب، كما أنها في وجه آخر حاصل نظرية "التحدي والاستجابة" كما يراها المفكر الإنكليزي "أرنولد تويمبي".

لا أعلم إن كان السوري قادراً على تخطي الأزمة لكي يولد حضارة، إلا أنني على يقين بأنه ـالسوري ـ جزء من مشكلة أكبر، فهو محكوم بالجغرافيا والتاريخ طالما أن هناك قوى تملك المال والسلاح، ولا تحارب من أجل بناء الحضارة بقدر حربها لمشاريع دينية، أو انتقامية، وطالما أنه يختزن فكر الكراهية فسيبقى أداة لتلك المشاريع.

على السوري أن يخرج من الصراع الكلاسيكي للقوى القديمة، عليه أن يتخلص من نزعاته الذاتية الضيقة، عليه أن يفكر في زراعة شجرة عوضاً عن كل بندقية وأن تكون هذه الشجرة "لا شرقية ولا غربية" حتى يصل إلى هويته بالعدل والمساواة والعمل.

*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
(168)    هل أعجبتك المقالة (178)

سوري

2015-07-30

صار لي يومين منتظر تعليقات القراء على هذا الموضوع المهم، شو ما في حدا عنده نقد أم الكل موافقين على الكلام؟.


m

2015-07-31

صراحه ما فهمت لوين بدك تصل الكلام الي على اساسو كتبت مقالك ما بيتحمل هل جديه كلها و السبب لمن بنحكي على الحمصي و السشاوي و الدرعاوي الكلام ما بيتعدا المزاح متل الي بصير ضمن العيله الوحده اما سنه و شيعه ف هي بحث تاني ف بلا تخبص وركز الله يرضى عليك.


سوري

2015-07-31

بس بدي اسأل الأخ mـ ماسمعت بماحدث بحلب، وكيف أن أهل المدينة لم يؤيدوا الثورة وأهل الريف هم أيدوها، وكيف لما دخلوا الثوار من أهل الريف على المدينة كيف تعاملوا مع أهل المدينة الذين اعتبروا الثورة وسخة وبلدي وشرشوحة لأنه أهل ريف حلب هم من تمسك بها وحملها؟ بعدين أنت عم تقول مافهمت لوين بده يوصل الكاتب وبالأخير عم تقول له بلا تخبيص... طيب إذا حضرتك مافهمت قصده كيف عرفت أنه عم يخبص؟ ما تكون حمصي وعم تسلبها عليه؟.


من سورية

2015-08-01

مقال بلخص الوضع السوري بكل احترافية. الكراهية كانت مخباية و عم تتلقم للأطفال مع الحليب. بس مو عند الكل، في قسم كبير من الشعب كان على نياتو، و ما بفكر بهالقصص، و الحقيقة تفاجئ بطريقة تفكير الآخر، ياللي هو شريك الوطن. المظلوميات كانت تتداول على ما يبدوا داخل الغرف المغلقة، و بين المجموعات العرقية أو الطائفية أو حتى المناطقية. بس السبب الرئيسي لترسخها هو بالضبط عدم القدرة على الجهر فيها لعدة أسباب، منها النظام السياسي القمعي ياللي عاشوا فيوا السوريين على مدى عقود، و من ناحية تانية لازم نعترف إنو المجتمعات المسلمة لا تتقبل النقد بسهولة، و في عندها كتير محظورات، زيادة عن اللزوم. الكراهية ما رح بتزول عما قريب لإنوا هلأ زادت بعد كل الجرائم ياللي اقترفها نظام عائلي همو الحفاظ على مصالحوا، و لهل غاية، علق حالوا بمصير طائفة كاملة، مشان يجبرها تحارب معوا للنهاية. يمكن لو المجمتمع متماسك و خالي من الكراهية ما كان حدا حسن يفككوا بهالشكل. الحل الوحيد ياللي ممكن نتأمل يحصل، هو ظهور كتلة متزايدة الحجم بتتمتع بالقيم ياللي لازم يتمتع فيها الإنسان السوري، و الشرط الأساسي لإلها هو إنا تكون نجحت تعزل حالا عن الكراهية، هي المجموعة السليمة لازم تلاقي دوا لبقية المصابين بهالداء، داء الكراهية، و ياللي صاروا ينعدوا هلأ بعشرات الملايين..


واحد

2015-08-02

بالعكس ظهرت أمراض اجتماعية أكثر فداحة. اليوم عم نحكي عن تطرف بين السنة والشيعة وبين المسلمين والمسيحيين. كل طرف بتمنى الموت والنار للآخر بطريقته. والسوريين بحياتهم ما عاد يرجعوا متل أول. خلص. انكسرت الجرة..


التعليقات (5)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي