أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أزمة الهوية مالنا وما علينا.. ريما فليحان*

لا يمكن لخلطة الانتماءات التي طفت على صفيح الحالة السورية اليوم أن تشكل أرضية مناسبة للحفاظ على وطن وهوية واحدة في ظل تنامي حالة الانقسمات العمودية والأفقية في المجتمع السوري، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا على تركيبة الفرد بصفته فرداً وبصفته جزءا من التركيبة المجتمعية والوطنية بشكل أوسع.

عمل نظام الأسد خلال سنوات حكمه الطويلة على تفكيك المجتمع السوري واستخدام أساليب وضيعه لزرع الأحقاد بين مكونات الوطن الواحد عبر افتعال عدد من الأحداث المؤذية وعبر الشائعات التي نشرتها المخابرات بشكل دائم في المجتمع الخصب لتلقفها، والتي تنطوي في عمقها على تحريض خفي يحمل خطاباً من الكراهية والطائفية والمناطقية، كما أنه استطاع دائما تحريك القاع من أجل إحياء ذاكرة السوريين التي تحمل تراكماً لإرث تاريخي من المظلومية تعرضت له فئات من المجتمع على يد فئات أخرى، مع تجريد تلك الذاكره من عمق الحدث الموغل في القدم وظرفه السياسي والتاريخي، الذي اختلف حتما مع تقدم العصر وتطور المجتمع، كما أن سياسات الظلم والقمع لمكونات كاملة من المجتمع من جهة، والإمعان في شيطنة مكونات أخرى ساهم أيضا في إضعاف الثقة والشعور بالغربة بين هذه المكونات بالعمق بالرغم من أن الظاهر لم يكن يظهر ذلك.

عمل أيضا على إضعاف القيم التي تربط الفرد بوطنه وتعزيز الحس الأناني لديه وقلة الاكتراث بالشأن العام وخنق المبادرات الفردية التي تعبر عن مساهمة الفرد في بناء الوطن وتخدم المصلحة العامه بمعناها الحقيقي، بالإضافة لسياسات اقتصادية ممعنه في فرض الفقر وانعدام الفرص وتعزيز المحسوبيات، وهي عوامل أدت لانشغال الفرد بالبحث عن لقمة العيش فقط ليصبح الهم الأساسي واليومي للمواطن.

إن هذه التربة الخصبة التي أنبتت حالة من ضعف الانتماء للوطن وللمواطنه شكلت أساساً كافيا لنمو الأحقاد وانعدام الثقة في ظل حالة الحرب الحالية التي نشأت بفعل استخدام العنف من قبل النظام في وجه تطلعات الشعب السوري الصادمة لسياسات النظام، حيث ارتطم بواقع ثورة حملت في البداية نفساً سلمياً وطنياً صافياً وشكلت حالة من الارتقاء لوحدة الشعب السوري في مواجهة النظام الطاغية بين معظم مكونات المجتمع السوري الطائفية والقومية والطبقية، وجاءت بعض الشعارات التي تصرخ بوحدة الشعب السوري وحلمه في الخلاص من الديكتاتورية ودولته المدنيه والديموقراطيه تهديدا حقيقاً للنظام من جهة ولقوى أخرى كانت تتربص بتطور الحالة السوريه علها تمرر مشاريعها القائمة على أسس أخرى لا تتفق مع هذه التوجهات الناشئة للشعب السوري.

جاءت ارتكاسة النظام الأولى عبر تصريحات بثينه شعبان القائمة على التشكيك بهذه التحركات واتهامها بأنها طائفية ونزع صفة التحركات الشعبية عنها في حين لم يكن يصرخ السوريون إلا بأنهم "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد" وبالتشكيك بسلميتهم واتهامهم بأنهم عصابات مسلحة حين كان السوريون سلميين بالكامل، ثم اعتمد النظام على عناصر الأمن والقوى المسلحة لمواجهة تلك الانتفاضة واستخدام كل أنواع العنف في مواجهة الحراك الشعبي، ثم بدأ تسريب مقاطع من التعذيب وإهانة المقدسات بشكل متعمد ومتلاحق ومكثف من أجل إثاره النعرات الطائفية وتعميق العنف وتعميمه. 

الإعلام السوري الرسمي والتابع للرسمي يحمل الوزر الأكبر، حيث اعتمد على شاشاته سياسة التخوين والتهديد والتحريض ونزع الصفة السوريه عن من يقف في الطرف الآخر منذ اليوم الأول، وأذكر هنا البرومو الشهير الذي كان يبث على الدنيا بعنوان "أنت أيها الآخر" وهي أسافين كانت تدق ببطء في نعش الانتماء الواحد. 

هذه السياسة ولدت العنف الكافي لنمو التوجه الديني على الخارطة وظهور شعارات أخرى وعشرات من الأعلام على الخارطة السورية والتي يعبر كل علم منها عن توجه ينفرد بنظرته المستقبلية وانتمائه وتعريفه للهوية. 

ساهمت بعض وسائل الاعلام الطارئة على الحالة السورية بتكريس خطاب ديني تحريضي من خلال بعض الأشخاص الذين بدؤوا بالظهور وتحريك الحس الطائفي لدى السوريين مستفيدين من إجرام النظام وطائفيته من جهه، ومن وجود حاضنه شعبية في بعض المناطق من جهة أخرى، كما أن استخدام النظام لعناصر طائفية في حربه على الشعب السوري خلقت الاستفزاز الكافي لخلق ردة فعل موازية بقناع طائفي أيضا، وهو ما أدى لاحقا لحالة من التشرذم والانكماش والتقوقع ونمو الهويات الضيقة على حساب الهوية الوطنية الجامعه للسوريين، الأمر الذي ساهمت به أيضا وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير. 

إذا وسائل إعلام النظام من جهة و انزلاق بعض وسائل الإعلام التابعه للثورة أو الداعمه لها من جهة أخرى كرّست الحالة الطائفية ولغة العنف وخطاب الكراهية بين المكونات، والتي ترافقت مع ازدياد حجم الجرائم المرتكبة بحق السوريين وازدياد هامش العنف على حساب الحراك السلمي والتي ساهمت بتفكيك المجتمع السوري.

ولايمكن أن أنسى أن تقوقع بعض المكونات السورية ضمن عباءاتها الطائفية وأنانيتها وابتعادها على المشاركة بشكل كبير في حالة التغيير المطلوبة ساهمت بالوصول إلى هذه الحالة من التشرذم ونمو هويات متعددة على حساب الهوية الوطنية الجامعه. 

حالة الفوضى تلك وإمعان النظام في إجرامه مهدت الطريق لدخول الطرف الثالث على الساحه السورية وهم القاعده وأتباعها وما تطور عنها من أمثال داعش، وهم من غيروا الخارطة من جهة وساهموا بتكريس الانتماءات الضيقة للمكونات السورية بداع الخوف من غول التطرف والتكفير ومشاهد الذبح التي غرقت بها وسائل التواصل الاجتماعي.

إن الحفاظ على وحدة سوريا وعودة الشعور بالانتماء الواحد للوطن السوري يتطلب وعياً وعملاً كبيرين من أجل تجاوز الحالة الصعبة التي وصلنا إليها، وهو يتطلب وقف الحرب في سوريا لصالح الخلاص من الديكتاتورية والانتقال السياسي ومواجهة التطرف وخروج كل القوى الأجنبية من سوريا وتحقيق العدالة للمظلومين، وإعادة الحق إلى أصحابه ووقف التدخلات الخارجية والمال السياسي وإطلاق آليات العدالة الانتقالية، وبناء دولة المواطنة وسيادة القانون وإطلاق الحريات، وهنا وفي الطريق لتحقيق تلك الأسس يجب أن تتحمل وسائل الإعلام مسؤولياتها في تجنب لغة التحريض والطائفية وتكريس الهوية الوطنية السورية من جديد ومحاولة العمل على تكريس الوعي الوطني والابتعاد عن الحس الغرائزي الانتقامي في اللغة والصورة والصياغة، ونبذ التحريض وخطاب الكراهية ومواجهته بشكل حازم.

وبالرغم من أن الحالة ليست مشرقة كما نتمنى، إلا أن صوت العقل السوري المتمثل في شرائح كبيره من السوريين الذين استطاعوا خلال هذه السنوات أن يلعبوا دورا واعياً في تكريس التوجه الوطني على الخارطة، والوقوف في وجه الكثير من محاولات خلق الفتنه والاقتتال الأهلي في كثير من المناطق في سوريا، وهم من استطاعوا خلق خطاب وطني لم تته بوصلته رغم كل هذا السواد هم بارقة الأمل التي يمكن أن تكون الحامل الوطني المطلوب لحماية سوريا من التقسيم ولتحقيق الأجندة الوطنية التي تحقق تطلعاتنا نحو العدالة والكرامة والحرية ودولة المواطنة.

*من كتاب "زمان الوصل"
(117)    هل أعجبتك المقالة (124)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي