الجزء الأول

على ديوان المحاسبة أن يتابع قضية الـ660 وظيفة خارج الكادر
هناك ممارسات خاطئة وسوء استغلال في العقود الشاملة وبعض المعينين لا يحملون شهادة الثانوية العامة
نحتاج إلى إعادة صنع للثقافة للتفريق بين الوظيفة والعمل
الإدارة المحلية في الأردن متدنية وهذا تحد يواجه الديوان
الانفتاح الاقتصادي لم يقلل من ثقافة الوظيفة خاصة في المحافظات
اكتشفنا وجود 30 ألف موظف مجهولي الهوية والمؤهلات
غضب الجميع مني لأنني رفضت قبول وساطاتهم
موقع رئيس ديوان الخدمة موقع قضائي العدالة فيه نسبية
نظام الخدمة المدنية اكثر تطوراً من الأنظمة الخاصة
نأمل أن يكون هناك نظرة أعمق في رواتب الموظفين وإعادة هيكلتها
النتائج التي أسفرت عنها برامج الإصلاح الإداري ضعيفة
حاوره للـ''اللواء'' حسن بلال التل:
مازن الساكت صاحب تجربة طويلة في العمل الحزبي والسياسي امتدت على الساحة العربية لعقود، قبل أن يعود إلى وطنه الصغير ويجدد انخراطه في الحياة السياسية الأردنية، ساعياً إلى المشاركة النيابية والحزبية، وكاتبا في الصحافة المحلية قبل أن يستقر رئيسا لديوان الخدمة المدنية.
وفي هذا الحوار الشامل حاولنا أن نغوص في أعماق فكر وتجربة الساكت الحزبية والسياسية والفكرية والوظيفية؛ فكانت هذه الحصيلة التي نضعها بين يدي قراء ''اللواء''.
* أنت تحتل أحد أهم المواقع الإدارية في الأردن فكيف تقيم تجربتك الوظيفية حتى الآن؟
- عل المستوى الشخصي أولا أنا رجل أعتبر نفسي ابن العمل السياسي و العام، لكنني في هذا الموقع خبرت بالتجربة العديد من الجوانب التي ما كان من الممكن أن أكتشفها بهذه الصورة، خاصة واقع حياة الناس المعيشية وحاجاتهم للعمل ومخرجات التعليم ومجموعة من القضايا والهموم الحياتية للمواطن، ورؤية واقع المحافظات وما تعانيه، وفي هذا الموقع أيضاً تشعر بأنك في موقع القاضي الذي عليه تحقيق العدالة، لكن في ظل شروط تفرض نفسها، حيث يصبح تحقيقها صعباً لأن فرص العمل في الدولة محدودة، وبالتالي تصبح هذه العدالة النسبية التي يحكمها حجم الطلب، ونوع الكفاءات وحجم السوق، إضافة إلى عوامل أخرى، الجانب الآخر هو الشعور بتحدي الموقع وسط تدني كفاءة الإدارة العامة، وهذا جانب مهمل لذا تشعر بأن دور الديوان أساسي في واقع تطوير الأداء الحكومي، وهناك كثير من القضايا التي يصعب الدخول فيها، مثل موضوع العدالة والمعلوماتية ونقص المعلومة وتراجع دور الديوان التاريخي ورفض دور الديوان المركزي في ظل اللامركزية والتي يقصد منها عادة حرية اللامركزية في التعيين فقط، رغم أن اللامركزية أكبر وأعمق من هذا ورغم أنها متاحة، فالأخذ بها ضعيف جداً ويحصر في مسألة التعيين.
* في ظل ما سبق هل لحظت تغييراً في نمط حياة وتفكير الأردنيين، وان وجد هذا التغيير فكم منه ارتبط بالتغيرات الاقتصادية؟
- بالتأكيد هناك تطور مهم حدث في واقع المجتمع الأردني في السنوات الأخيرة، وقد ارتبط بمجموعة متغيرات منها متغيرات دولية انعكست على واقع العلاقات والاقتصاديات الدولية، وواقع التعامل مع الكثير من الضغوطات الدولية التي تفرض نفسها على الواقع المحلي، ومتغيرات لها علاقة بالتغيرات السياسية الداخلية مثل عودة الحياة الديمقراطية، وإعادة تفعيل الدستور وهذا أدى إلى تغير سياسي واجتماعي كبير في مختلف مناحي الحياة اليومية وهذا ينعكس بوضوح على عمل الديوان سواء من ناحية التوظيف و أما واقع الانفتاح الاقتصادي فالمفترض أنه قلل من ثقافة الوظيفة وشجع على الاقتصادات الخاصة، لكن للأسف هذا لم يحدث على أرض الواقع وهناك انعكاس كبير على الناحية الاقتصادية ورغم أن النمو الاقتصادي كان يجب أن يكون شاملاً، الا ان الحراك الاقتصادي أصاب قطاعات محددة ومناطق محددة، فخارج العاصمة بالكاد نلمس أي تغير في هذا المجال، فبقي توجه الوظيفة الحكومية ليس فقط السائد، بل الواجب والوحيد أمام أبناء المحافظات.
* هلاّ شرحت لنا الفرق بين حق الوظيفة وحق العمل وفهم رجل الشارع لكل من هذين المفهومين؟.
- الشرح سيكون لرجل الشارع وللمسؤول وللنائب لأن ما يبذل من جهد في سبيل إيجاد الوظيفة بذل نحو إيجاد وخلق فرص العمل لأعطينا نتائج كبيرة في هذا المجال، فحق المواطن في العمل على الدول في كل الأنظمة والقوانين هو حق مصان مثل حق الحياة نفسها، لذا فالدولة عليها بكل ما تملك من إمكانيات خلق فرص النمو الاقتصادي اللازم لتهيئة فرص العمل وفي تاريخ نشوء دول العالم الثالث ومنها الأردن كانت الوظيفة العامة الحكومية هي التي تمثل أساس فرص العمل المتاحة، وضعف النمو الاقتصادي والاجتماعي في القطاعات الأخرى شجع على هذه الثقافة وأيضا واقع الثقافة الاجتماعية الغالبة جعلت الوظيفة هي الفرصة التي تمثل حدود الكرامة والدخل المعقول والاستقرار والموقع الاجتماعي وكل ما يعزز هذه الثقافة ويسبب ضعف توافر فرص العمل المتاحة والتراجع الكبير في العمل الزراعي، ولأننا شهدنا في العقود الماضية تقلص وتلاشي النمط الأسري في الإنتاج الزراعي، أصبحت الوظيفة الحكومية وكأنها الملاذ الوحيد للأردني وبالتالي أصبحت المطالبات الشعبية بالوظيفة وكأنها فرصة العمل الوحيدة والشرعية وحل هذه القضية يحتاج إلى إعادة صنع الثقافة بالعديد من الوسائل للتفريق بين الوظيفة التي هي حاجة الدولة إلى أشخاص ليقومون بمهام وهي إحدى الفرص المتاحة وبين مفهوم العمل، وحتى الضغوط الاجتماعية مثل الواسطة وغيرها يجب أن توجه نحو المعنيين لخلق فرص العمل وليس لإتاحة الوظيفة.
* كيف تقيم التعامل مع العمل الحكومي مع مفهوم الوظيفة العامة؟
- التعامل الحكومي واضح ويدرك أن الوظيفة العامة هي وظيفة تحددها الحاجة وطبيعة المؤسسة وما هو مطلوب منها لكن الحكومات لا تزال تشعر بواجب اجتماعي واقتصادي ولن يتراجع هذا الشعور إلا بتحقيق تقدم حقيقي في تفعيل الحياة الاقتصادية وما تخلقه من فرص عمل، وسيبقى التزام الحكومة تجاه الناس قائم خاصة في ظل ظروف الفقر والبطالة، لذا أخذنا نرى توجهات الحكومة نحو التدريب المهني، والتدريب في المصانع والمؤسسات وأحياناً حتى اللجوء للتجنيد الإجباري، من هذا المنطلق نرى بعض المسؤولين يلجأ إلى التشغيل العشوائي مثل قطاع البلديات والزراعة وغيرها من المؤسسات التي يتراكم بها آلاف الموظفين دون دراسة وحاجة حقيقية وحتى دون مسمى وظيفي، وهذه مساهمة في مواجهة الضغوط التي يعانيها المواطن غير أن لهذا له مشاكل كبيرة وسلبيات نعاني منها في واقع الأداء الحكومي، ولا يجوز أن تستمر هذه الممارسات ثم نطالب برفع وتطوير الأداء، فهذه الإزدواجية يفرضها الواقع ونحن نتعامل بمرونة مع الواقع ومن هنا تأتي صعوبة الأداء الإداري التي تتطلب المرونة، لكن أيضاً تتطلب المحافظة على كفاءة الأداء وترشيد واقع الوظيفة الحكومية بحزم.
* طالبت الحكومة بإلغاء 660 تعيين وصفتها بأنها غير صحيحة، وهو ما ساندك به رؤساء الحكومات، لكن جهات برلمانية ومؤسسات مجتمع مدني، طالبت بإلغاء أكثر من 30 ألف تعيين وصفت بأنها خارج جدول التشكيلات، فكيف تعاملت مع هذه الظروف وكيف تفسر قيام الحكومة ومؤسساتها بإجراء هذه التعيينات ثم المطالبة بإلغائها ؟
- بداية الموضوعان رغم ترابطهما فهما مختلفان، أولاً عند بداية استلامي لمهامي رئيساً للديوان وبحثي عن المعلومة اكتشفت أن عدد الموظفين في الدولة الأردنية ليس 141 ألف كما تظهر التقارير بل هو 171 ألف، بمعنى أن هناك 30 ألف موظف مجهولي الهوية والمؤهلات ومكان العمل وبناء عليه تمت دراسة ميدانية وحددت هذه الفئة ومؤهلاتها وسنة التعيين، فاكتشفنا أن قسم منهم عمال مياومة وآخرين بوظيفة معلم بديل والغالبية عين على حساب المشاريع وتحت مسميات عديدة مختلفة إلى درجة أن هذه التعيينات تمت تحت 16 حساب مختلف، فكان المسؤول يبحث عن أي موقع، يمكن أن ينفق فيه مبلغ فيعين فيه، لذلك تم النظر إلى هذه الفئة بصورة مختلفة لأنه من الصعب أن تستغني عن 30 ألف موظف بعضهم له خدمة أكثر من 20 سنة وأنا أزعم أن لا أحد قادر على اتخاذ مثل هذا القرار السياسي، أما المطالبات خاصة النيابية منها بإلغاء هذه الوظائف، فكان القصد منها في تقديري اعتبار الجامعيين فقط متعدين على الدور، أما الفئات الأخرى فلا بأس من تثبيتها وهذا مخالف للمنطق الخاص بكفاءة الأداء، وعلى هذا الأساس وضع نظام خاص لهؤلاء، حيث أقر مجلس الوزراء آلية وشروط تثبيت هؤلاء فما قبل 99 وهي مرحلة تفتقر وتنعدم فيها الوثائق وضعوا في فئة، ومرحلة ما بعد99 قسموا إلى من عين عن طريق الديوان ومن عين عن طرق أخرى، وتم إجراء امتحانات ولجان مقابلات وغيرها من إجراءات، لكن سيبقى العمال غير المهرة تحت مسمى عامل مياومة، وقد وضعنا لهم نظام سيقره مجلس الوزراء ينص على حقوقهم ويقترح لهم حقوق أخرى ستندرج ضمن قانون العمل من إجازات وتأمين صحي وضمان وغيرها.
أما الحديث عن الـ660 فهذا إحصاء أجراه الديوان في نيسان/2007 حتى نفحص مدى التزام الحكومة بقرارها بوقف التعيينات اعتباراً من شهر10/2006 وهذه الـ660 هي ما استطعنا أن نكتشفه من تجاوز خارج جدول التشكيلات خلال هذه المدة، لذا كتبت إلى رئيس الوزراء بضرورة وقف هذه المسألة وإنهاء تعيين هؤلاء وإلا فسنكون كمن يدور في حلقة مفرغة، ولن تحل المشكلة وبعد سنوات قليلة سنجد أنفسنا أمام 30 ألف آخرين خارج جدول التشكيلات وعندها سنكون بحق قد اعتدينا على حقوق الآخرين، ومحاولة إخراجهم من وظائفهم سيواجه باعتراضات واعتبار المسألة غير إنسانية وتضييع لحقوق مكتسبة وما شابه ذلك من حجج، وبالتالي وقياساً للجدية طلبت من رئيس الوزراء إلغاء تعيين كل من عين بعد تاريخ صدور قرار الوقف لأن الحكومة التي لا تستطيع تنفيذ قرارها تفتقد إلى الجدية، في حينه استجاب دولة الرئيس ووجه كتاب إلى إحدى المؤسسات التي كانت صاحبة أعلى نسبة في التعيين بوجوب إلغاء تعيينات هؤلاء خلال شهرين.
والمشكلة هنا تكمن في متابعة هذه المسألة والإصرار عليها والتي هي مهمة الجميع سواء ديوان الخدمة أو غيره من مؤسسات وقد أعاد م.نادر الذهبي رئيس الوزراء التأكيد على هذه القضية وضرورة إنهائها، لذلك نرجو أن تكون هذه المسألة قد أنجزت وهنا يقع دور كبير على وزارة المالية ودائرة الموازنة العامة وديوان المحاسبة لأنه بالرقابة المالية يمكن حل هذه المسألة فبدون وجود النقود لن يكون هناك مجال للتعيين، وقانون ديوان المحاسبة ينص على مهمة الرقابة الإدارية، لذا عليه أن يتابع هذه المسائل ومدى الخروج عن المعايير المحددة.
* وضع سوق العمل الاردني الآن ينقسم إلى شرائح متعددة ومتناقضة فهناك جهات حكومية وخاصة تعين برواتب بالآلاف أحياناً لأشخاص دون خبرات ومؤهلات، وبالمقابل هناك جهات مماثلة رواتبها بالكاد تسد الرمق حتى لأصحاب الخبرات والمؤهلات، فبماذا تفسر هذا وما أثره على واقع المجتمع؟
- أظن أنك تتحدث عن التعيين وفق نظام العقود الشاملة لأن الحديث عن القطاع الخاص هو مسألة مختلفة تماماً تحكمها طبيعة القطاع وحجم المؤسسات ودورها ومع ذلك فهذا يترك آثاره على واقع سوق العمل والمجتمع لأنك أحياناً لا ترى مبررات حقيقية لهذه الفروقات لكن في الوظيفة العامة هناك مستوى محدد للرواتب محدد بطبيعة الوظيفة والإمكانيات وحجم الموازنة العامة وما عليها من أعباء وحجم الوظيفة العامة، لذا فقد كان القرار الأول بعد قرار تحرير الأسعار ورفع الدعم هو قرار رفع الرواتب كنوع من تحجيم المشكلة، بالمقابل هناك نص في نظام الخدمة يمنح مرونة لتعيين بعض الأشخاص من أصحاب الخبرات والكفاءات غير المتوفرة في الخدمة المدنية والتي لا يستطيع جدول الرواتب استيعابها هذه المسألة مورست بشكل خاطئ، وتم فيها سوء استغلال بحيث نجد بعض الأشخاص من هذه الفئة لا ينطبق عليها أي من الشروط وبعض المعنيين بهذه الصورة يحملون فقط شهادة الثانوية العامة أو الدبلوم المتوسط، لذا سعينا إلى خلق صورة من المؤسسية في هذه المسألة ومن ضمن ذلك اقتراح الإعلان المفتوح في الصحف وتحديد وصف وظيفي واضح لها وامتحان ومقابلة وفرز المتقدمين حسب شروط الإشغال واشترطنا أن يكون ممثل الديوان في هذه اللجان من خارج الديوان على أن يكون من أصحاب الخبرة في المجال المراد التعيين به وهذه المسألة حسنت من الواقع لكنها لم تكن كافية كونها مسألة تحتاج كفاءة فنية عالية لتحديد كفاءة الأشخاص لهذا الموقع، ولا زلنا نسعى إلى تطوير هذه الآلية لكن ما حدث في أواخر عهد الحكومة السابقة أن وزير التخطيط تقدم بطلب تعديل لإلغاء آلية الانتقاء تلك التي وضعناها، طبعاً هذا باسم المرونة والثقة بالوزير، وبرأيي أن هذه حجج منطقية، فعند اختيار الوزير هذا يعني أنه محل ثقة لكن في كثير من الأحيان يتضح أن هذه المسألة لم تستقم والالتزام بالأسس شبه معدوم، علماً بأن بعض الذين عينوا ضمن هذا النظام لا يحملون حتى التوجيهي.
* نعلم أنك قاومت تعديلات نظام الخدمة وهناك مسؤولون اتهموك بالديكتاتورية والمركزية لأنك رفضت أو قاومت فكرة طرح تعديلات على نظم التعيين في مؤسساتهم، بماذا ترد على هذا؟
- أولا: في إستراتيجية الديوان المعلنة أكدنا في عام 2008 على لامركزية التعيين في وزارتي التربية والتعليم والصحة، بعكس كل ما يشاع لكن ضمن شروط بالطبع لم تطبق وبقيت المسألة ''شعاراً''.
المسألة الأخرى أن نظام الديوان الجديد 2007 جاء ليوزع الصلاحيات بين مجلس الوزراء ومجلس الخدمة المدنية، فتحول المجلس من جهة استشارية إلى جهة صاحبة قرار حقيقية، وقد أعطينا صلاحيات عديدة لأمناء عامين الوزارات والمدراء العامين، لكن في التعديل الأخير هذا كله تمت محاربته ومحاولة رد الوضع إلى ما كان عليه باسم أن هذا تعد على صلاحيات الوزراء.
ثانياً: الأنظمة المستقلة لا تعرض على ديوان الخدمة، بل توضع وتنشر دون مشورة منا، لكن بحكم القانون يرد فيها كلها نص يقول: '' بأن ما لم يرد في هذا النظام يرجع فيه إلى نظام الخدمة المدنية'' ومع الأسف وبدون تحفظات أو ظلم فالبرجوع إلى هذه الأنظمة جميعها ستجد أن نظام الخدمة متقدم عليها، رغم أن الأصل أن نظام الخدمة نظام تقليدي لأنه نظام حكومي تفصيلي محدد، الواجب أن تكون تلك الأنظمة أكثر مرونة وأكثر حداثة، لأنها وضعت لهذه الغاية لكن مع الأسف فهذه الأنظمة أقل كفاءة والتميز الوحيد فيها هو ''جدول الرواتب''، لذا عند معالجة عشرات القضايا يضطرون للرجوع لنظام الخدمة، أما مسألة التعيين بهذه النظم فهي خارج مقياس التقييم، لأنها بلا متابعة وهذه المؤسسات حتى الآن لا أحد يعرف واقعها أو واقع كوادرها البشرية وتخصصات موظفيها ومستوياتهم وهذا لا يجوز.
وقد اقترحت وضع نظام نمطي استدلالي للأنظمة المستقلة لمنع التفاوت والاختلاف الضخم بينها، فكل مؤسسة من هذه المؤسسات لها ميزاتها ومهامها، لكن هذا لا يعني أن تضع كل منها نظامها دون أي دلالات أو تبريرات.
الأهم من كل هذا هو أن نفهم معنى المؤسسة المستقلة وشروط استقلاليتها التي أهمها قدرتها المالية حتى لا تبقى عبئاً على المواطن والموازنة، وليس مجرد زيادة سلم الرواتب لأن زيادة الرواتب لا تعني زيادة الكفاءة، وإلا لكان هذا شرطاً في كل أجهزة الدولة والخدمة المدنية، وما يحدث في هذه المؤسسات بحجة رفع الكفاءة أن ما يمنح للموظفين من مكافآت وعلاوات يمنح ''اعتباطاً'' وللجميع حتى تحول إلى حق مكتسب وجزء من الراتب وفقد قيمته ومعناه، لذا فموضوع الاستقلالية مهم والمرونة فيه مطلوبة لكن يجب وضع معايير وعمل تقييم للتجربة لنكتشف نسبة ارتفاع الأداء بسبب هذه الاستقلالية، أما اتهام الديوان بالمركزية فهو غير صحيح لأن هذه الأنظمة لم تعرض علينا أصلاً.
* ما رأيك بالتعديلات الأخيرة أو ما سمي لا حقاً بالمقطوعية التي أضيفت إلى الرواتب؟
- الزيادة الأخيرة باعتقادي كانت محكومة بالعبء الذي ترتب على المواطن والذي يجب علاجه قدر الإمكان، وهذه المعالجة يجب أن تصب في خانة الجميع، لكن تحديداً أصحاب الرواتب الأدنى، لذا ظهرت مسألة ما فوق الـ300 دينار وما دون الـ300 دينار، والتي وضعت نتيجة لحسابات مالية لها علاقة بحسابات ونفقات الأسرة والفرد.
لكن هذه العملية هي شيء مختلف عن تطوير واقع الرواتب كرواتب، لأن هذا له منهجية مختلفة، لأن نسبة غلاء المعيشة تحتسب بنسبة الراتب الحالي، وبالتالي هذه القيم أو النسب لا يمكن أن تكون متساوية أيضاً، لأجل أن تراعي الفئات الدنيا يجب أن تكون النسب تنازلية تزيد بانخفاض معدلات الرواتب، هنا يتم تحقيق العدالة لكن فهذا يشكل علاوة محددة لمسألة محددة، وليس عملاً وفق منهجية الرواتب على أي حال هذه الحالة فرضت بموجب حالة اجتماعية اقتصادية واقعة ومحددة، لذا كانت واجبة ولازمة، لذا نأمل أن يكون هناك نظرة أعمق في مسألة الرواتب واستمرار إعادة هيكلتها مع الحفاظ على ما وصلنا إليه، لأننا حاولنا معالجة تشوهات كبيرة حدثت في سلم الرواتب، ونأمل أن يراعى هذا في موضوع الزيادة القادمة، بحيث لا تبقى ''لم صم'' أو مقطوع، ومكان وضع هذه الزيادة حتى تبقى ضمن بنية وموضع معقول في هيكلية الرواتب.
* ماذا تقول حول المطالبات بإلغاء ديوان الخدمة، وهل هذا ممكن فعلاً؟
- أولا: لا شيء غير ممكن، لكن السؤال هل هذا صحيح أم خاطئ، وهل هذه الصحة تقع الآن أم بعد حين، بمعنى أنه لا يجوز أن يقال أنه من الصحة حل الديوان بعد 20سنة، ثم آتي وأحله الآن، وإلا فهذه تصبح مسألة موقف وليست مسألة نابعة من فهم أو دراسة أو منهج، لذا نقول أن الديوان أنشأ عام 55 كمؤسسة تعنى بالوظيفة العامة من ناحية توصيفها وهيكلتها ونظمها الوظيفية وغير ذلك وفي السنوات الأخيرة وضعت طروحات للتطوير والإصلاح في الكثير من الدول ومنها الأردن، وغالباً ما كان هذا النهج يأتي عن طريق خلق مؤسسة جديدة، لذلك، و الآن الحديث عن مسألة صحة هذه الخطوة، و مسألة صحة هذه المؤسسة الجديدة لا زالت تحتاج إلى نقاش خاصة في ظل ضعف النتائج التي وصلنا إليها بموجب هذا النهج في قطاعات الإصلاح والتطوير، من مثل التنمية الإدارية والتنمية السياسية.
وبرأيي الإصلاح هو برنامج يمكن أن تطبقه مؤسسات عديدة على صورة برنامج عام وطني، وهو برنامج قد يتطلب مؤسسة أو لا يتطلب وعموماً فالبرنامج موجود منذ القدم في الدولة الأردنية، وهذا البرنامج لم تجر تشاركيه في وضعه أو كيفية تطبيقه أو تحديد المهام داخله او متابعة تطبيقه، وتقييم نتائجه، وبقيت المسألة تدور في فلك الشعارات والسياسات وبعض الجهات والخبراء الذين يضعون أفكار عامة، وداخل هذا كله تم الحديث عن محاولات الشد العكسي، ودور الديوان ومقترحات حله وأنا كنت من الناس اللذين قالوا بوضوح إن عدم نجاحنا الحقيقي في مسألة التطوير والإصلاح أدى إلى اللجوء إلى مبررات الشد العكسي وتخلف وتقليدية ديوان الخدمة كمبرر أو شماعة لتعليق عدم نجاح تلك الخطط وباعتقادي إن عدم النجاح راجع لمسائل عديدة أهمها عدم وضوح ما نريد من البرنامج الوطني الإصلاحي، وبالتحديد المهام الحقيقية والأهداف الحقيقية المراد الوصول إليها، أي الأهداف القابلة للقياس والتحقيق بشكل شامل.
على أي حال الديوان بقي مستبعداً لسنوات حتى من قبل لجنة الإصلاح، حتى أوجدنا قناعة لدى رؤساء الحكومات المتعاقبة بأهمية الديوان وقدراته، لذا تعزز دور الديوان حتى أصبح تطوير دوره مسالة مطروحة بحيث لا يجوز أن نبقى مؤسسة مركزية تعنى بالتفاصيل وهنا يكمن سوء الفهم بالديوان، فالديوان لا يعين أو ينقل أو يرفع، بل نحن نرشح وننسب وندقق هذه الإجراءات، ونجمع المعلومات حولها، أما العمل الأساسي فيكمن في الدوائر وطالما أن هناك ضعف في أداء الدوائر فلا الديوان ولا وزارة التطوير تستطيع صنع التطوير طالما أن الدوائر لا تستطيع ولا تقتنع بهذه العملية، لذا فالمسؤولية الأساسية تقع على الوزراء والأمناء العامين بأن يتبنى هؤلاء المسؤولون هذه العملية كجزء من برنامج عملهم اليومي، وهذه المسألة أصبحت واضحة.
موضوع الديوان يأتي ضمن هذه المسالة، فهل يجب جمع كل المؤسسات المعنية بالتطوير والإصلاح والإدارة في وزارة واحدة، وهل هذه المسألة ستؤثر على استقلالية الديوان الذي وجد لمبررات هو والأجهزة المشابهة، مثل ديوان المحاسبة وديوان المظالم المستقلة والمرتبطة برئيس الوزراء لتحقيق غايات سياسية هي الاستمرارية والثبات والاستقلالية، لكن الناحية السلبية، ان هذه الاستقلالية سببت عزل هذه المؤسسات عن مجلس الوزراء، مما تسبب بانعزال هذه المؤسسات وفي حال لم يهتم بها رئيس الوزراء بصفة شخصية، فتبقى هذه المؤسسات بعيدة عن الاتصال وقد عاصرت 6 رؤساء وزراء بعضهم لم ألتقه إلا مرة واحدة.
بالمقابل هل هذا يعني أننا نستطيع الاستغناء عن هذه الاستقلالية، هنا تكمن المعادلة الصعبة.
لكن أقول أن الثبات في هذه المؤسسات أفضل كثيراً من التشتت والتضارب الذي عشناه ونعيشه خلال السنوات القليلة الأخيرة، والتي تكاد تصل إلى حدود أن الإصلاح توقف على حل الديوان، وبغض النظر عن سلبيات وإيجابيات بقاء الديوان من عدمه، أنا لا أزال من الأشخاص الذين يدعون لجمع وتوحيد الأجهزة والمؤسسات المعنية بالإدارة والتطوير لأن الفلسفة التي قالت بعزل السياسات عن التنفيذ لم تكن دقيقة في تعريف السياسات ولا التنفيذ ولا المؤسسات، فمثلاً ديوان الخدمة ليس منفذاَ بل هو مشرف ومنسق ومتابع للالتزام بالأسس مما يجعله شريكاً في وضع السياسات والوزارات ذاتها هي المسؤولة عن وضع سياساتها و لا يجوز أن نخلق مؤسسات لوضع السياسات ونجعل من الوزراء والوزارات أدوات تنفيذية.
على أي حال أعتقد في هذه المرحلة أن دور الديوان حيوي وأساسي، لأنه يشكل كم معرفي ومرجعية عمرها 50 سنة وهذه هي التي استطاعت أن تضع كل ما تشهده الإدارة الأردنية من تطور في أدوات التطوير الإداري، والديوان هو الجهة الأساسية التي تستطيع وضع البرامج اللازمة لإدارة الموارد البشرية وهو قادر على فعل أكثر من ذلك لولا أن يقال أن هذا تدخل في سياسات برامج التطوير.
وقد قلت مرة لأحد وزراء التخطيط أن هناك أكثر من نصف مليون إجراء رقابي يقوم بها الديوان، فمن سيقوم بها لو حللتم الديوان؟ هذا عدا عن الإجراءات الأخرى وحتى عندما صدر نظام الخدمة المدنية فالمسألة لم تنته عند هذا، فقد وضعنا بعد ذلك أكثر من 13 نظام تفصيلي وتوضيحي للتعامل مع تطوير الأداء لم تكن لتظهر لولا الديوان، وهذا يسري على برمجة المعلوماتية وتعديل الرواتب، ولدينا الآن برنامج معلوماتي سيطرح خلال 6 أشهر لإعادة تصحيح واستكمال كل معلومات القوى البشرية في كوادر الدولة، وهو برنامج ضخم تشارك فيه الكثير من المؤسسات لوضع نظام شامل متكامل لقواعد معلومات القوى البشرية في الدولة والحكومة الإلكترونية، والديوان أول مؤسسة استطاعت أن تخلق شيء واضح في هذا المجال، لذا أقول أن هذا كله لا يمكن إهماله ويمكن أن تتم إعادة هيكلة أو دمج الديوان في وزارة أو تحويله إلى وزارة أو الإبقاء على الديوان وهذه مسألة أخرى.
* لديك العديد من المواقف المشهودة أثناء خدمتك رئيساً للديوان، لكن البعض يقول أنه توقع منك أكثر من ذلك كمعارض ومشاغب؟
- مواقفي ليس سببها كوني معارضاً وأنا إن فعلت شيئاً وهذا ما أرجوه، فهو لأن لدي رغبة في أن أقدم شيئاً للعمل العام ولصالح التقدم ولصالح الموظفين ولصالح الإدارة العامة في الدولة، وهذه مسألة يحكم عليها الآخرون، لكن إجمالاً أرى أن الديوان فعالاً ومؤسسياً ومؤثراً.
موضوع أنني بسبب خلفيتي المعارضة كان يجب أن أفعل أكثر فسأعطيك مثالاً لتبسيط المسألة وحتى لا ندخل في عمق هذا الموضوع الكبير فأنا مثل ما رفضت وساطات من نواب وأعيان ووزراء فقد رفضت وساطات من رفاق وأمناء عاميين لأحزاب وحزبيين وقد غضب الجميع مني، رغم أنهم جميعاً يقفون على المنابر ليخطبوا ضد الواسطة والمحسوبية وهذا لإيماني بالعدالة والشفافية؛ فالعمل السياسي يوسع من الأفق ويعطي للفرد رؤية شمولية وموقف أعمق تجاه الفئات الشعبية وفي النهاية الأمر مسؤولية عامة، ولست أدري ما توقعوا مني أكثر مما فعلت فأنا قد قمت بواجبي وما أراه صحيحاً وما هو من قناعاتي وما أراه من واجبات منصبي الذي يجب أن يكون من يشغله جدياً وكفئا ونزيهاً ومتابعاً.
يتبع ........
الجزء الثاني .
هناك قوى داخل الدولة تتعامل مع الديمقراطية شكليا
'' البعثيين المبطلين'' هم أكبر حزب في الوطن العربي
الصحافة الأردنية لم تتطور على صعيد المهنة وتأثير''البزنس'' عليها صار واضحاً
شهدنا بداية التراجع والتقييم للتجربة وتبنينا الديمقراطية بدلاً من الشمولية
تركت العمل التنظيمي مبكراً وبقيت على موقفي التقدمي
باستثناء الحركة الإسلامية فإن سائر المشاركات السياسية ''شخصية''
مجتمعنا يقيم ثم ينسى ويستقبلك بـ ''أهلاً باشا''
البعض استغل ''الواقعية السياسية'' ليرتد عن كل شيء
لم يراجعني أحد من الدولة عندما قدمت العزاء بصدام حسين
المؤتمر القومي العربي ليس له أي مدلول واقعي وقد تحول إلى مجرد جلسة في فندق
تجربة الحزب العربي الديمقراطي مهمة وكانت تعبيراً عن ''المخاض الديمقراطي''
مازن الساكت صاحب تجربة طويلة في العمل الحزبي والسياسي امتدت على الساحة العربية لعقود، قبل أن يعود إلى وطنه الصغير ويجدد انخراطه في الحياة السياسية الأردنية، ساعياً إلى المشاركة النيابية والحزبية، وكاتبا في الصحافة المحلية قبل أن يستقر رئيسا لديوان الخدمة المدنية.
وفي هذا الحوار الشامل حاولنا أن نغوص في أعماق فكر وتجربة الساكت الحزبية والسياسية والفكرية والوظيفية؛ فكانت هذه الحصيلة التي نضعها بين يدي قراء ''اللواء''.
*نعاني في الأردن وفي الوطن العربي عموماً من ظاهرة أن من يخرج من وظيفته يخرج عن صمته وبالتأكيد بحكم وظيفتك وصل إلى علمك عشرات المسائل التي ما كنت لتعلم بها لو بقيت في صفوف المعارضة وخارج السلك الحكومي، فهل يخطر في بالك أحياناً أنك قد تضطر خارج إطار الوظيفة أن تنشر الغسيل كما يقال أو أن ترى تجاوزاً من الفداحة بمكان، مما قد يضطرك إلى تسريب الأمر إلى أحد قدامى الرفاق؟.
- هذه المسألة أنا أحد منتقديها، فأنا أشعر بعدم الراحة تجاه الشخص الذي عندما يخرج من الموقع يصبح فجأة ''جورج حبش'' أفهم أن الموقع يضع ضوابط في طريقة صياغة ما تريد التعبير عنه وسقفه وطبيعة التعابير المستخدمة في ذلك، لكن في جوهر المسائل، فإن كنت رجلاً صاحب رؤيا وموقف فستبقى هذه الرؤيا واضحة، أما مسألة الانقلاب 180درجة في كل اتجاه وأي اتجاه حسب الموقع والمنصب فهذا موضوع آخر وتقييمه في المجتمع معروف رغم أن المجتمع يقيم ثم ينسى أو بالأصح يقيمك عندما تكون خارج الموقع وتنقلب على نفسك ثم عندما تعود تصبح المسألة على طريقة ''أهلاً باشا''، على أي حال أحياناً الدولة تصنفني بالمشاغب رغم أني أرى أنني أحترم الالتزام والأصول التي تتأتى مع الموقع وأحترم التسلسل، لكن هذا لا يمنع ذكر الحقائق والآراء العامة لأن الوصول إلى المصلحة العامة يتطلب المرور بالمخاض عن طريق الحوار وطرح الرأي وليس صحيحاً أن يكون المرء مدافعاً عن المواقف والإجراءات، وأن يخفي الوقائع والحقائق عن الناس، لكن أيضاً لست مع التشهير والبطولات وفرد العضلات بعد الخروج من الوظيفة، فأنا مع الشيء العملي والمقنع، والذي يصب في مصلحة الدولة والوظيفة العامة والمجتمع، لذا يجب أن يكون عندك موقف جريء تواجه به من يلزم، لذا هناك قضايا أقولها للمسؤول دون الصحافة وقضايا أطرحها داخل الديوان وأخرى في الندوات وغيرها للصحافة وكل مسألة تختلف عن الأخرى حسب المسألة وحكمك عليها.
*ما الذي أقنعك بالانتقال من صفوف المعارضة إلى صفوف الحكومة، رغم أنك من المعارضين الذين قضوا سنوات طويلة خارج الوطن؟
- هذا سؤال شخصي جداً، لكن أقول أن هذه المسائل لها علاقة بسياق تاريخي، فنحن نشأنا في حالة نهوض وحراك سياسي، ووجود الحلم والأهداف الكبرى وعشنا حركة طلابية نشطة، وأحياناً أعتقد أنني ابن الحركة الطلابية أكثر مما أنا ابن العمل السياسي، لذا يبقى لدي انفتاح أكثر من أبناء الحركات الحزبية التي تبقى إلى حد ما مغلقة، لكن نحن شهدنا بدايات مرحلة التراجع والتقييم للتجربة وأهم ملامح هذه المرحلة: هي مشكلة الشمولية وبسببها تبنينا الديمقراطية كنهج للتعبير عن ردة الفعل وخيبة الأمل التي حدثت في كل الحركة السياسية التقدمية في الوطن العربي وتجاه التجارب التي حققت إنجازات عديدة لكنها فشلت في حفظ كرامة الإنسان، وهذه مسألة مهمة جداً.
الآن الأشخاص يتركون العمل السياسي لأسباب عديدة، فهناك من يترك لأنه ملّ، وآخرون يتركون لأنهم يريدون احتلال مواقع وغير ذلك، النماذج متعددة وموجودة في الساحة، على كل الأحوال بالنسبة للعمل التنظيمي فقد تركته مبكراً، ومنذ الثمانينيات بناءً على تجارب حزبية داخلية في ذلك الحين، لكن بقيت على موقفي القومي والتقدمي الذي أؤمن به، وأيضاً النهج الديمقراطي جعلني أتوقف أمام مسألة الخيارات التي تعبر عن تطور حقيقي في الفكر السياسي وهذا التطور ليس مجرد استغلال مرحلة انفتاح سياسي أو استغلال بسبب حاجة شخصية، بل ان التطور في الفكر السياسي تجاه الديمقراطية هو قناعة بضرورة تاريخية للبرامج المرحلية والأهداف الحقيقية القابلة للتحقيق، وبالتالي الواقعية السياسية التي هي مسألة غاية في الأهمية، والتي شكل ضعفها على الساحة الأردنية أحد أسباب عدم قدرة هذه الساحة على التطور، مع الإشارة بين قوسين أن البعض استغل الواقعية السياسية كحجة ليرتد عن كل شيء، وليس هذا ما أعنيه لكن نحن الآن وصلنا إلى قناعة أننا مع التطور السلمي للمجتمعات والتطورات في العلاقات والنظم والتطور السياسي الديمقراطي هو طريق تحقيق التطور الاقتصادي والاجتماعي، وطريق لتحقيق حتى الأهداف الكبرى الوحيدة، مثل الوحدة والتحرير وهذه مسائل غير مسقطة من هذه البرامج، لكن هذه البرامج الآن تتعامل مع واقع وحقائق وموازين قوى وظروف مختلفة، وبالتالي تحاول التركيز على مجموعة من القيم والبرامج التي تقود المجتمع مثل احترام المشاركة والتعددية ومحاربة الفساد، وتحقيق منجزات حقيقية، وكثير من القضايا الضخمة التي تحتاج إلى زمن كبير لتتحقق، وربما في بداية 89 عندما كنت في الحزب العربي الديمقراطي طرحت تجربة المشاركة وكان أول من شارك محمد داودية عندما التحق بالديوان الملكي العامر، وعندها اتصل بي د.خالد الكركي وقال إننا نريدكم جميعاً معنا في الديوان، فأجبته مازحاً: إذن أنت تريد إغلاق الحزب.
ومن هنا تدافع الناس نحو المشاركة في حينه، بما في ذلك أسماء التحقت بهذا الركب لاحقاً كان رأيي أنه طالما نحن حزب دستوري فاعل، فيجب أن نسعى نحو المشاركة، لكن أن تكون مشاركة سياسية وفق برنامج حزبي وليس فقط شخصي وهذا للأسف غير موجود باستثناء الإسلاميين، أما الباقي فهي مشاركة شخصية لا تعبر حتى من بعيد عن البرنامج السياسي.
وعموماً هناك ضعف في الحالة السياسية والاتجاهات المعبرة عن اتجاهات رئيسية في المجتمع، وتحقيق هذا يحتاج إلى وقت طويل لخلق مؤسسات قادرة على المشاركة الحقيقية وصناعة التغيير في فهم المشاركة والتعددية، والآن هناك طرح واقع، فهناك نواب وأشكال من الكتل النيابية والطروح النيابية وأفراد يمثلون مواقف أحياناً، لكن هذا لا يبني حياة سياسية
ومن هنا دخلت المشاركة السياسية بناءً على هذا الفهم أولاً، وبناء على الحاجة ثانياً فأنا لست إقطاعياً ولا أملك استثمارات، فقد كنت دوماً موظفا، وأعتقد أنني أؤدي مهمة أساسية من خلال هذا الموقع الذي أؤمن به وفخور بإنجازي فيه.
أما مسألة عدم النشاط السياسي فمرتبطة بواقع عام مؤسف وأنا ممن ساهموا بمحاولات عديدة منذ عام 90 وحتى 2002، وشاركت في تجارب مع إخوان لكن للأسف لم يتحقق شيء ليس بسبب الإشكالية الذاتية في الواقع السياسي فحسب، بل أيضاً لأسباب موضوعية مثل الواقع السياسي ومثل موازين القوى وما حصل من تغيرات وتسويات وغيرها.
*إذن هل يمكننا أن نقول أنك رغم الخروج من الإطار الحزبي ما زلت بعثياً في الصميم، أو حتى لا ندخل في أزمة المصطلح هل ما زلت مؤمناً بمبادئ البعث؟
- ليس خشية، لكن أحياناً الكلمات تحمل الكثير، البعض يرى التجربة الحزبية هي مسألة مبادئ نظرية فقط، لكن الواقع أن مسيرة أي حزب بعد 50 سنة لم تعد مجرد نظريات أو كتب ميشيل عفلق، بل هي تجربة سياسية وهي تجربة سوريا والعراق، وصدام حسين وحافظ الأسد وصلاح جديد وأكرم الحوراني وكل هذه التجارب والقادة والأشخاص، والحكم على هذه التجربة بأي شكل هي مسألة أخرى كبيرة وعميقة، لذا فأنا أقول انني ابن المدرسة الوحدوية والمدرسة التقدمية،وفي ظل السنوات الأخيرة فأنا ابن المدرسة الديمقراطية إن جاز لي قول ذلك، لذا أعتبر أن هذا الاتجاه هو اتجاه سياسي في المنطقة، ويملك الحلول الإستراتيجية بمعنى أننا مهما قلنا عن إخفاقات العمل القومي والتجارب الوحدوية والتباعد الموجود حالياً لا يمكن أن نقول أننا يمكن أن ننجز المسائل الكبرى كالتقدم والديمقراطية دون الوصول إلى صيغة من صيغ الوحدة في الوطن العربي وصيغ العدل الاجتماعي والتنسيق العربي والحريات المؤسسية التي بدونها لا يمكن تحقيق شيء حقيقي، يمكن أن ننجز الإصلاحات لكنها تبقى شيئا نسبيا، لذا فما زلت أؤمن بهذا المنهج وما زلت معه، وهو منهج قد أعطى على طول التاريخ تضحيات كبيرة ولم نصل إلى ما نحن فيه لولا هذا المنهج بأخطائه وتجاربه ومآسيه، لكننا رأينا كيف أنه عندما يسحق هذا الاتجاه نتراجع ونصبح ''دكاكين'' وطوائف وأشلاء.
*كيف كان موقف الحكومة منك عندما توجهت إلى مقر حزب البعث لتقدم العزاء بالرئيس الراحل صدام حسين، وأنت برتبة وزير؟.
- الواقع لم يخاطبني أحد بهذا الشأن.....والحمدلله.....
*أما زلت مؤمناً بإمكانية توحد الأمة؟
- وإن شاء الله، هذا أمر واجب وفي الحتميات التاريخية رغم أننا لم نعد نتحدث فيها بشكل كبير أو على الأقل أصبح الحديث شكل طوباوي، لكن على الأقل المصالح الأساسية تقول أنه بلا هذه الأهداف الوحدوية لا يمكن أن نتقدم بشكل حقيقي، فنحن عندنا توزيع غير متجانس للقوى البشرية والثروة والمناخ، لكننا أمة واحدة يجمعنا تاريخ ولغة ودين، ومثلما الأوروبيون قد توحدوا في وجه هذا العالم الواسع الجديد عالم القوة والتكتلات، نحن أيضاً يجب أن نفكر بهذا الاتجاه، صحيح أن المسألة القومية قد تكون نعمة و نقمة لأنها تقول أننا متوحدون في الأمة والتاريخ والمصير والحضارة، ولكنها نقمة لأن الأنظمة تشعر بالخوف من التقارب، خاصة أن تجاربنا في الخمسينيات تظهر مثلاً أن ظهور أي حزب قوي في أي قطر يجعله ينتشر مباشرة في كل الأقطار سواء بعث أو إخوان مسلمين أو شيوعي، وهذا سببه أننا أمة واحدة والحقائق تفرض هذا، ولذلك فكل شيء وحدوي يتم إيقافه، سكة الحديد تقف، الطرق الرئيسية تقف، وحتى الاقتصاد يقف، لذا نأمل على الأقل أن يتحرك الاقتصاد لأجل أن تتطور ومن ثم نعيد النظر بالمسائل السياسية.
*في يوم من الأيام كان عدد أعضاء البعث في الأردن بالآلاف وأنصاره بعشرات أو مئات الآلاف، والآن لو أردنا أن نحصي من ما زالوا على مبدئهم لما تجاوزوا العشرات، بماذا تفسر هذا؟
- لقد ذكرتني بالدكتور منيف الرزاز رحمه الله، حين كان أميناً عاماً مساعداً في بغداد، وكان رحمه الله طريفاً وعميقاً، وفي يوم جاءته صحفية أمريكية أظنها من النيويورك تايمز، وسألته ما هو أكبر حزب في الوطن العربي؟
فأجابها: ''البعثيين المبطلين''، وهذا داخل القيادة القومية أنت تسألني لماذا، سأجيبك نحن الآن في عصر مختلف وفي تغير هائل، سابقاً كنا نقول أننا في مرحلة الخمسينيات ومرحلة الستينيات ومرحلة السبعينيات، أما الآن فنحن في عصر مختلف عصر جديد وليس مرحلة، فمنذ سقوط الاتحاد السوفيتي وظهور عالم القطب الواحد، والتغيرات التقنية والاقتصادية الهائلة، وما حصل في العراق والمنطقة هذا يفرض أننا في عصر جديد، وبالتالي هذا العصر هو الذي يجب أن يحكم توجهاتنا وخياراتنا الجديدة، فلا يجوز أن نحلل بناء على الواقع العالمي، وعند القضايا المحلية نتحدث وكأن شيئاً في العالم لم يتغير ونتناسى كل هذه المقدمات، وبالتالي هذا لا بد له من انعكاسات على الناس عموماً، فكما هو ملاحظ الناس مبتعدة عن العمل الحزبي قاطبة نتيجة أسباب متعددة جزء منها الثقافة السابقة مثل أن من يعمل في العمل الحزبي، فلا بد سيتضرر وتتضرر مصالحه لكن أيضاً الناس ابتعدوا عن العمل الحزبي لشعورهم بفشل هذه التجربة في تقديم نماذج كانوا يحلمون بها نماذج التقدم والحرية والرفاه وغيرها، أيضاً حالة الإحباط العام والهزائم المتكررة،وعدم المصداقية التي يرونها في التجارب الواقعية والفعلية التي يعيشونها،سواء تجارب سياسية أو انتخابية، لذا فنحن بحاجة إلى إعادة المصداقية لواقع الحركة السياسية، والحزبيون هم بشر يتأثرون بكل ما سبق، بل على العكس هم الأكثر تأثراً فهم الذين يفهمون معنى سقوط وفشل التجربة وانهيار الحلم، لذا يكون إحباطهم مضاعفاً.
*أنت عضو المؤتمر القومي العربي الذي يضم عشرات إن لم يكن مئات من الأسماء الأردنية والعربية وبعض هذه الأسماء أساء إلى الأردن في بعض المراحل، فأين أنت من هذا ومن هؤلاء؟
- الواقع أني لم أساهم أو أشارك في المؤتمر منذ حوالي ست سنوات، وقد وجهت رسالة إلى الأستاذ معن بشور عندما كان أميناً عاماً للمؤتمر حول واقعية هذا المؤتمر، قلت له فيه أن المؤتمر هو فرصة طيبة للقاء والنقاش وتلاقي أصحاب التجارب والخبرات، ومحاولة تقييم المرحلة، لكن في النهاية فالمؤتمر ينقصه التعبير عن شيء عملي واقعي؛ فالمؤتمر فعلياً ليس له أي مدلول واقعي، بل هو مجرد جلسة في فندق في أي عاصمة عربية لبضعة أيام، وهذا ما عبرت عنه بوضوح في رسالتي إلى الأستاذ معن الذي أكن له كل احترام وتقدير، وأنا أرى أن المؤتمر هذا هو دوره،وبالأحرى مأزقه وهو مأزق كل الحركة السياسية العربية، أما بالنسبة لموضوع الإساءة فنحن بين مرحلتين وكما سبق وقلت كان هناك موقف من المعارضة وتجاه المعارضة وفي مرحلة لاحقة أصبحنا نقول بالخيار الديمقراطي والتعايش داخل الدستور، والالتزام بالنظام السياسي، ومرة أخرى أريد أن أقول أن في الكثير من الحالات الفردية وحتى الحزبية فإن التحول نحو الديمقراطية لم يكن تعبيراً عن تحول حقيقي بالفكر السياسي، بل كان مجرد خضوع لمرحلة واستغلال للانفتاح السياسي، وهذا غير صحيح، وغير جائز فالديمقراطية خيار يفرض عليك التزامات حتى في أسلوب التعبير، فما كنا نشتمه قبل هذا الخيار لم يعد جائزاً لنا شتمه بعد قبولنا بهذا الخيار، وهذه المسألة تخضع لنفس الحكم وحتى لا أظهر أنني مع طرف وضد آخر، أو بالأحرى أنه في صف الحكومة؛ فبالمقابل هناك أيضاً في الصف الحكومي من ظن أن الخيار الديمقراطي هو مجرد مسألة شكلية ووسيلة لإظهار الفرق السياسية في العلن لحصرها ومحاصرتها في المقار وتعداد المنضمين إليها، وتلجيمها، لذا فالتجربة الديمقراطية مع الأسف في أزمة حقيقية والتطورات السياسية في التسعينيات زادت من هذه الأزمة وجمدت تقدم الديمقراطية بشكل حقيقي، وهذا ما يعبر عنه جلالة الملك أحياناً من إبداء رغبته بتطوير الحياة السياسية وبناء الأحزاب والتعمق في التجربة الديمقراطية، وهذا ما لا يجد أي أصداء أو حتى مؤشرات في الواقع العملي.
ومرة أخرى أقول أن الأزمة في الحياة السياسية هي ليست أزمة تعددية، بل أزمة غياب وتنظيم الاتجاهات الرئيسية في المجتمع، ليس من المهم أن يكون هناك 100 حزب، بل المهم أن يكون هناك تيارات رئيسية في المجتمع، مثلاً في الولايات المتحدة هناك مئات الأحزاب داخل كل ولاية، لكن المجتمع ككل منظم أو مقسم الاتجاهات بين الحزبين الكبيرين الديمقراطيين والجمهوريين، فالمشكلة أننا حتى الآن لم نستطع أن نؤطر جماهير شعبنا ضمن برامج واقعية حقيقية تعبر عن رؤاهم الوطنية والقومية وفي ذات الوقت تعبر عن مصالحهم.
*ما كانت أسباب فشل الحزب العربي الديمقراطي الذي كنت أحد مؤسسيه رغم حياته القصيرة؟
- الحزب العربي الديمقراطي تجربة أظنها كانت مهمة لأنها كانت تعبر عن مخاض تطبيق الخيار الديمقراطي وعن ولادة قوى جديدة تؤمن حقيقة بالديمقراطية وهذا الخيار تبنيناه مقابل جهات أخرى كانت تظن أن الأحزاب التاريخية هي التي من الممكن أن تنمو وتصبح ديمقراطية ووجهات نظر أخرى متعددة، لكن تجربة الحزب العربي في البداية كان فيها خلاف في قضايا فكرية أساسية، ذات علاقة بمصطلحات عامة، وحسمت لصالح أن يكون الخيار القومي والوحدوي واضحاً،خاصة في الأردن لأننا في الأردن لدينا إشكاليات متعلقة حتى بالتركيبة السكانية، لكننا نريد أن نحافظ على شخصية وبرنامج وطني مبدئي، هذا البرنامج يحمل نقطتين أساسيتين: الأردن وأمنه واستقراره، ومبادئه، والقضية الفلسطينية وهمومها، وفيما بعد دخلنا في علاقة الشد والجذب في الدولة وهي تجربة خاضها معي الكثير من الزملاء الذين هم الآن في مواقع مختلفة وقسم منهم يجهله الناس ويجهلون دوره رغم أهميته، وهذه من مشاكل العمل الحزبي والسياسي لأن كثيراً ممن يعطي ويضحي يبقى دوره مجهولاً، إلا إذا شغل منصباً مهماً مثل وزير، أو رئيس ديوان خدمة مدنية مثلاً....
هؤلاء الأشخاص قدموا الكثير خلال هذه التجربة التي كانت فاعلة ونشطة إلى درجة أنها نظمت قرابة 600 من موظفي الدولة الأردنية حتى قيل أنه حزب حكومي عندها قلت على العكس أنا أشعر بالاعتزاز لأننا بهذا تغلبنا على تحدي أساسي أسميته تحدي البرنامج الواقعي الذي تستطيع كل فئات المجتمع حمله وتحمل نتائجه، وليس أن تنحصر في برنامج لا يستطيع إلا أن يستقطب بضع أطباء ومحامين من النقابيين، ولكن للأسف تراجعت التجربة لأسباب عديدة منها الخلاف بين الموقع والموقف، وهذا إن كان أساسياً لم يكن كل المشكلة عدا عن هذا أنني في إحدى المرات بحثت عن الـ600 موظف الأعضاء فوجدت أن جميعهم قد اختفى لأكتشف بعدها أن الكل قد تضرر بصورة ما، فالمبعوث ألغيت بعثته ورئيس القسم حول إلى موظف، والذي يعمل في عمان نقل إلى المفرق، وغير ذلك، إذن فهذه إشكالية فهم الديمقراطية لأن الأحزاب تتعامل مع الديمقراطية لاستغلالها وبالمقابل هناك قوى داخل الدولة أيضاً تعامل الديمقراطية بشكل شكلي، والمشكلة أنه ليس هناك تفريق بين برنامج الواقعية السياسية والبرامج الأخرى، فالكل يعامل بمقياس واحد، وهذه إحدى مشاكل ما بعد تجربة التسعينيات وإحدى أهم أسباب عدم إفرازها لشيء مهم وفي ذلك الحين لأجل أن نعالج مشكلات الحالة السياسية ذهبنا إلى خيارات أخرى مثل التوحد مع قوى المفروض أنها يسارية أخذت النهج الديمقراطي و بعد تجربة قصيرة معها دخلنا في مسألة الاستقطاب الحكومي، وهنا أفرق بين الاستقطاب والمشاركة، وما حدث كان استقطابا حكوميا لأن المشاركة يجب أن تعني ولو جزئياً الحفاظ على الحد الأدنى من الموقف، أما الاستقطاب فهو شيء آخر شخصي، وبعد فشل هذه التجربة التي كانت واعدة في تشكيل اتجاه رئيسي في المجتمع، لجأنا إلى الخيار الآخر الذي كان أكثر مرونة فلجأنا إلى وزراء ورؤساء حكومات كي نعوض النقص في القدرة على الفعالية ولنوجد مناخا أكثر مرونة وأكثر تقبلاً من مختلف الجهات، لكن للأسف وصلنا إلى قناعة أن هذه العناصر التي أردناها أن تكون رافعة لهذه التجربة خشيت أن تكون قد وصلت إلى تجربة يمكن أن تحبطها، وتحبط دورها وموقعها، وغير ذلك من معادلات، بالتالي لم يحدث تفاعل واستمرارية وبقيت الأمور على ما هي عليه وركدت كل الساحة السياسية، وما يحدث الآن هو نشاط انفعالي، فمثلاً تجربة الوطني الدستوري جعلت الكل حزبيين ثم تجربة التنمية السياسية حولت الجميع تجاهها، وكل هذه التجارب عمرها أشهر ولم ولن تستمر أكثر من ذلك وهذا ما يعبر عن أحد أوجه الأزمة الأخرى، وهذا موضوع مهم يحتاج إلى معالجة وحوار مطولين.
*كيف تفسر عدم نجاحك عندما خضت تجربة الانتخابات البرلمانية، رغم أنك اسم حزبي ووطني له تاريخه وفي ظل هذا كيف تقارن التجربة الديمقراطية والحزبية في مرحلة الخمسينيات التي قد تكون من أنجح التجارب الحزبية العربية، وما حدث بعد عودة الديمقراطية في 89 ؟
- أولاً بما يتعلق بي شخصياً فقد ترشحت في انتخابات عام 89 عن الدائرة الثالثة، ولم أكن قد عدت إلى الأردن إلا منذ عامين فقط، أي في عام 87 بعد غياب 21 سنة بالتالي لم أكن معروفاً، إضافة إلى أن إمكانياتي المادية محدودة وللتمثيل أقول: خلال إحدى الندوات التي جمعتني بحزبي يساري ومن أصحاب النهج الثوري أيضاً فتح باب المناقشة حول مقدار ما صرفه في حملته الانتخابية ففوجئت بالرجل يرجوني أن أغلق هذه المسألة حتى لا يفتضح الإنفاق الضخم الذي يفترض أنه يتعارض ومبادئه.
أيضاً العديد من الرفاق في النهج الحزبي اعتبروا أن ترشحي كمستقل فيه اختراق للخط الوطني واتهموني بأنني ترشحت بناءً على توجيه حكومي وغيرها من أسباب لم تساعدني على النجاح.
لكن التجربة كانت جداً رائعة خاصة في ظل جو تلك الفترة المفعم بالحيوية السياسية والتعطش إلى الحوار والعلنية، وكان هناك مشروع سياسي مطروح وكان المطلوب عمل حوار حول هذا المشروع وتوجهاته، وهذا ساعد في التجارب السياسية اللاحقة التي تحدثنا عنها، وعلى المستوى الشخصي، فقد ساعدتني على اختصار زمن الغياب الذي امتد لعقدين في زمن قياسي قصير.
أما الحديث عن مقارنة التجربة بما كان حاصلاً في الخمسينيات فالاختلاف كبير ففي الخمسينيات كنا في حالة النمو فهناك اندفاع في النفس القومي وزخم في تشكيل الأحزاب ، وزخم في النهج الاستقلالي عن الاستعمار المباشر سواء لدى النظام أو لدى الأفراد وكل الشخصيات الوطنية مثل سليمان النابلسي كانت تحمل هذا الاتجاه الوطني العام، وقد فشلت لأسباب عديدة وقد أعددت بحثاً حولها قدمته في إحدى الندوات المتخصصة، لكن ما حدث في التجربة الحديثة هو وجود تغيرات كبرى حول النظم الشمولية، حتى قبل سقوطها أي في مرحلة إجهاضها والتململ تجاهها، من حيث توقف تجربتها وتراجعها وعدم تحقيق أحلام الاشتراكية ودولة الرفاهية وعوامل أخرى وأيضاً تجاه النظم التي حققت نمواً اقتصادياً لكنها شكلت تراجعاً في مناحي أخرى، بحيث أصبحت أكثر قمعاً من النظم التي سبقتها على مستوى الأفراد والحريات،بالتالي هذا النمو المتصاحب بالتغيرات الدولية والمحلية ابتداء بالخيار الديمقراطي مع خصوصية النظام في الأردن الذي له صفات خاصة منها صفة القرب من الحس الشعبي وأحياناً استباقه، ( وللحق فالتقاط جلالة المغفور له الملك حسين لهذه الظاهرة كان مسألة تاريخية عندما أعلن العودة إلى الحياة الديمقراطية دون وجود قوى ضغط فرضت هذه المسألة، صحيح أن هناك مؤشرات وجدت مثل ''هبة نيسان'' لكنها كانت مؤشراً وليس قوة).
*بصفتك كاتباً وصاحب تجربة في العمل الصحفي، ماذا تقول عن واقع الصحافة الأردنية في المرحلة الحالية؟
- أعتقد أن الصحافة لم تتطور كثيراً فبالقياس إلى مرحلة ما قبل الانفتاح السياسي ومرحلة ما بعد الحياة السياسية والبرلمانية فهي لم تتطور كثيراً فبغض النظر عن المستوى التقني والفني غير المتعلق بالعمل الصحفي ذاته لم يحدث تطور، بل حدث تراجع أحياناً،فعلى المستوى المهني مثل التحقيق الصحفي والمقابلة الصحفية وغيرها لم يحدث تطوير على الصحافة ولي ملاحظات كثيرة على الصحافة فحتى على مستوى المادة السياسية والثقافية والفكرية الصحفية في مراحل سابقة كان هناك وضوح أكثر، وكان هناك جرأة أكبر.
وأعتقد أنه على الرغم من ارتفاع سقف الحرية إلا أن الرقابة الذاتية أصبحت أكبر بكثير من الرقابة الخارجية، خاصة تأثير ''البزنس''، فقد كتب أحد الصحفيين أن الشيء الوحيد الذي أصبح من الممكن مهاجمته ونقده هو الحكومة أما الشركات والواقع غير الحكومي فلا أحد يتعرض له، صحيح أن هناك بعض الأسماء المتميزة من الشباب الصحفي في مجالات التحليل السياسي والكتابة الساخرة وحركة نشيطة في بعض النواحي، إلا أن هناك أشياء تؤثر مثل ضعف في اللغة والتدقيق والتبويب، وكثير من المسائل.
*ما رأيك في واقع العمالة الأردنية والأجنبية في المناطق الصناعية المؤهلة سواء من حيث الحدود الدنيا للرواتب بالنسبة للأردنيين وظروف العمل بالنسبة للعامل الأجنبي الذي يفاجأ بظروف عمل ومعيشة قد تكون غير إنسانية، مما دفع هؤلاء للإضراب في أحيان عدة؟...
- الواقع أنني لست متابعاً لتفاصيل هذه المسألة بدقة، فقد تابعتها في مرحلة ما، وبالذات مسألة نسبة العاملين الأردنيين التي هي أقل بكثير من الأجانب وهذه قضية غير سليمة وغير صحية، وأهم سلبيات المناطق الخاضعة لإتفاقية QIZ أننا لم نستفد منها بالحد الأدنى فحتى كيفيات العمل ومفردات الإنتاج لم نستفد منها وهذا كان أقل ما يجب أن نأخذه من هذه التجربة لكننا لم نحصل منها إلا على تشغيل جزء من العمالة غير الماهرة، وبالتالي فآثارها على الأردن ضعيفة، وكذلك مدخلاتها ولا تقارب حجم الصادرات التي تشكلها من مجموع الصادرات الوطنية، وبالتالي يجب إعادة النظر في هذه القضية.
*برأيك هل إلغاء العمالة الوافدة أو تقليصها بشكل كبير سيحل مشاكل في الأردن؟ ماذا ستكون النتائج لو خلى الأردن فجأة ''ولو بطريقة سحرية'' من العمالة الوافدة؟.
- دائماً لست مع الإجابات التي تنقسم إلى أبيض أو أسود كل حالة يجب أن تناقش بشكل علمي وفق الحلول البديلة والإمكانات والكلف والقدرة على تحقيقها، إذا كنا بحق نمتلك القدرات على فعل ذلك فأنا أول المؤيدين، لكن المشكلة أننا لا نستطيع إلغاء العمالة الوافدة لنكتشف بعدها أننا عطلنا قطاعا كاملا إنتاجيا أو خدميا في البلاد، فهذا لا يجوز لمجرد رفع شعار ''لا للعمالة الوافدة''، هذه المسألة تحتاج مناقشة كبيرة لواقع وحاجات سوق العمل، وواقع القوى البشرية الأردنية وعمليات التدريب والتأهيل وواقع الرواتب ومسألة الثقافة المحلية تجاه بعض الأعمال وهناك وجهات نظر تبالغ وتظلم العمالة الأردنية من ناحية ثقافة العيب، وأن العامل الأردني يرفض بعض الأعمال وأن الأردنيين لا يستطيعون سد فراغ العمالة الوافدة، وهذا كلام غير صحيح، كما أنه غير صحيح أننا لو أخلينا البلاد من العمالة الوافدة فستسد العمالة المحلية حاجات سوق العمل كاملة، وبتقديري أن هذه المسألة تحتاج إلى دراسة واقعية وافية و لا يجوز أن يعطى فيها رأي اعتباطي، يجب أن نحدد القطاعات التي نحتاج فيها إلى ذلك والإعداد والمهارات المطلوبة والبدائل وغيرها.
*سؤالنا الأخير للأستاذ مازن الساكت كنت قد أعلنت أن الديوان يقوم بدراسات سنوية لواقع سوق العمل لتقدم للحكومة والجامعات للتحكم ولو جزئياً بمخرجات العملية التعليمية، فما هي أحدث نتائج هذه الدراسة؟؟؟
- نحن نعد هذه الدراسة بشكل سنوي وتفرز عدة نتائج، صحيح أنه بالمقارنة يصعب لمس تغييرات من سنة إلى التالية لكن على صعيد كل 5 سنوات أو أكثر، يمكننا لمس فروقات كبيرة أحياناً وعلى أي حال نحن أحياناً نجري دراسة متخصصة بالمهندسين فقط لنعرف حجم العرض والطلب حسب التخصصات فاكتشفنا أن هناك ندرة في المهندسين المدنيين، وهناك طلب كبير عليهم بشكل عام، وهناك استنكاف من هذا القطاع عند طلبهم من قبل الديوان، فهناك الآن 8000 طلب على المهندسين وبالمقابل هناك 31 ألف طالب على مقاعد الدراسة يدرسون الهندسة بفروعها المختلفة، على الرغم من أن الفروق بالرواتب بين القطاع العام والخاص غير كبيرة، نحن لا نقارن هنا الراتب الحكومي بأعلى الرواتب في القطاع الخاص، لكن نقارنها بمتوسط الرواتب في القطاع الخاص هذا ينطبق على الدراسات التي نجريها وآخرها كانت حول واقع العرض والطلب في سوق العمل، فهناك 187 ألف طلب لدى الديوان، وهناك تخصصات راكدة بمعنى أن القطاع العام لا يطلب منها إلا عددا محدودا جداً، مثل التاريخ والجغرافيا والشريعة وغيرها، بالمقابل هناك ندرة في بعض التخصصات مثل أطباء الاختصاص والهندسة المدنية، والمعمارية، وهندسة المساحة، وطرقنا مسألة دبلوم المجتمع التي تخرّج عشرات الآلاف مقابل ضعف الطلب على هذه الشريحة، وأيضاِ مسألة الركود في التشغيل في بعض المحافظات حتى في التخصصات الراكدة مثل محافظات مادبا والمفرق والطفيلة، وهذه بحاجة إلى تحديد سياسات التعليم والابتعاث المختلفة، هناك أيضاً ضعف في الناحية العملية في مساقات التعليم، فالدراسة جاءت بنتيجة أنه لا يجوز أن تستمر بعض مساقات التعليم بما هي عليه دون أن تلبي أدنى حدود إشغال الوظيفة، وبالتالي لابد من تعزيز مساقات التدريب في بعض الاختصاصات، وأكبر مثال عليها مساقات السكرتارية والإدارة في كليات المجتمع التي تخرج الآلاف دون أدنى المهارات العملية اللازمة لسوق العمل مثل الطباعة كأبسط مثال على ذلك، وهذه مشكلة حقيقية، ففي مجال الإدارة والسكرتارية هناك 11 ألف طلب، وفي الشريعة هناك 7500 طلب، وهذا هدر للجهد ولمستقبل الشباب، ويحتاج إلى تدخل حاسم من قبل كل الجهات صاحبة القرار في المسألة ولا يجوز أن نبقي على هذه ''العبثية'' في هذا المجال.
ومن هنا تأتي أهمية مثل هذه الدراسة وما تشكله من مؤشرات ولو كانت جزئية تختص بالقطاع العام، لذا يجب أن تتكامل هذه الدراسات مع دراسات أخرى تختص بالقطاع الخاص.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية