يربط المثقف في الغالب بأوصاف عريضة فهو المستشرف للمستقبل بنظرته الثاقبة واتزانه اللامتناهي والمرابط في برجه العاجي يتابع التطورات عن كثب ويبدي آرائه "النيرة " في عظائم الأمور وارقها ,لكن الوضع هنا في الحالة السورية يحيلنا على كثير من الاستغراب والتساؤل والإيغال في التقصي عن عجز هذا المثقف في الأخذ بزمام المبادرة وتحمل مسؤولياته بالشكل الأمثل و المطلوب ,فحدث بمثل ضخامة وحساسية الثورة السورية العظيمة يفرض "همة " غير عادية ووعيا حقيقيا بضرورة الخلاص من التبعية وكسر الأغلال وهذا ما نفتقده في حالتنا هذه التي نلمس من خلالها ضياعا وتشرذما مشابها لواقع الطرف السياسي الآخر المتربص "بالكعكة " والمستنفر لافتراسها والتهامها دون أدنى جهد أو قطرة دم مستغلا آو راكبا صهوة مطالب وحقوق المواطن العادي البسيط تلك الورقة التي يلعب بها الجميع ويتفنن في استعمالها والتلويح بها بل والأدهى المحاورة باسمها والدفاع عن ابسط شروطها ,يستنتج الواحد منا تباعدا وتنافرا لا مبرر بين الطبقات المشكلة للنخب الثقافية السورية التي انحسر دورها في كتابة فقرات يومية "بوستات " على جدران مواقع التواص الاجتماعي ناقلين خبرا من هنا آو ناشرين لأقوال مأثورة من هناك منتظرين "الغيث الالكتروني " المكون من أرقام الإعجاب المسجلة من لدن القراء و المتتبعين آو "المبارزة " عن طريق نقاشات فارغة أكل الدهر عليها وشرب ولا تقدم آو تؤخر ,يحز في النفس حقا تواري دور المثقف إلى هذا الحد المخزي المهين ولعلي قد وجدت الفرصة سانحة كي اسبر أغوار هذا الإشكال من خلال الملتقى الفكري السوري الذي انعقد قبل فترة بالعاصمة الفرنسية باريس في إطار مجهودات شخصية من طرف الأستاذ يحيى قضماني والمطرب سميح شقير قصد لم الشمل وإعادة اللحمة الغائبة بين النخب الفكرية والثقافية السورية في لقاء دام ليومين متتالين وحضرته أسماء "وازنة " على غرار صادق جلال العظم ونوري الجراح وميشيل كيلو وجمال سليمان وعارف دليلة وهيثم حقي وفايز سارة وخطيب بدلة هذا الأخير الذي أجابنا برحابة صدره المعهودة على بعض الأسئلة التي تستهدف الملتقى وهدفه الرئيسي وكان السؤال الأول يتمحور حول تأخر المثقف السوري كل هذا الوقت ليحاول ترميم الصفوف وتوحيدها للوقوف في خندق الشعب بشكل فعلي وفعال بعيدا عن الشعارات والكلام المعلب فأجاب القاص السوري المخضرم قائلا : كل شيء في سوريا تأخر ,تأخرت الثورة على نظام الاستبداد حتى شرس وأصبح من الصعب اقتلاعه ,تأخر انتصار الثورة ,ليس بسبب شراسة النظام وقوته وكثرة المساندين له ,بل بسبب أخطاءنا وتناقضاتنا وأحيانا "تفاهتنا " ,ليس كل المثقفين السوريين جديرين بحمل هذا اللقب ,الم تر بعضهم "يشبح " لصالح النظام و "ينبح " مع جوقة النابحين معه ؟ الم تر بعضهم يتخلون عن مبادئهم وأخلاقياتهم ويركضون وراء المتنفذين والداعمين وسفارات الدول الأجنبية ؟ الم تر بعضهم وقد سدوا أفواههم وكان ما يحصل في بلادهم من قتل وتدمير وتشريد يحصل في بلاد أخرى ؟ تأخرنا نعم ..وكلن ما بيدنا أن نفعل ؟ يجب أن نقف في خندق الشعب ..هذا كلام نظري جميل ..ولكنه مع ذلك يندرج في باب الأمنيات ,على كل حال المحاولة التي بدأت جيدة ..هذا ما يمكن أن يقال ,وفي سؤال أخر حول الرسالة الموجهة للشعب السوري التي ختم بها الملتقى أعماله وإمكانية تمييزها عن باقي المؤتمرات السابقة وما نتج عنها يجيب الصحفي السوري خطيب بدلة بان المشكلة ليست في أن يكون الكلام جديدا ا وان يكون عتيقا ,المشكلة في نقل الموضوع من خانة الكلام إلى خانة الفعل ,ويضيف : " أنا شخصيا عكس تماما أعجبتني الرسالة ورأيت فيها موقفا وطنيا حضاريا وفي اعتقادي آن قسما لا يستهان به من المثقفين يتبنون هذا الموقف ومرة أخرى اقو لان العبرة بالتطبيق " كما شدد الأخير ردا على سؤال يهم وجود ميثاق شرف يلزم كل الأطراف بتفعيل مواقفهم وترجمتها إلى أفعال ملموسة على الأرض وموعد حدوث ذلك بان فكرة "ميثاق الشرف " فكرة رائعة تمنى لو أنها طرحت قبل الملتقى لتبنيها وأضاف "في المؤتمر طرحت فكرتان قريبتان منا الأولى طرحها الأستاذ هيثم حقي وتتلخص في تشكيل تيار ديمقراطي دنيوي اجتماعي والثانية طرحها الأستاذ ميشيل كيلو وهي تشكيل القطب الديمقراطي ,,فكرة ميثاق الشرف برأيي أوسع وتجمع الديمقراطيين مع القوى المدنية الأخرى وبضمنها القوى الإسلامية المعتدلة حول حالة وطنية عالية ,وكسؤال أخير حول إمكانية رؤية مؤتمرات آو ملتقيات أخرى لتقييم الحصيلة وتجديد الأفكار قياسا مع التسارع الهائل في وتيرة الأحداث على الأرض أجاب :"هذا السؤال ينبغي أن يوجه إلى الأستاذ يحيى القضماني الذي مول اللقاء بالمناسبة أنا اقترحت عليه أن يتم اللقاء القادم في خيام تنصب خصيصا لهذا الغرض على الأراضي التركية قرب التراب السوري الغالي ,يجدر بنا أن نتخلص من عادة الإقامة في الفنادق آم الخمس نجوم ,ففي تلك الفنادق كثيرا ما ينسى الإنسان انه سوري وان شعبه يحترق " ..
تجدر الإشارة هنا إلى آن قرابة الشهرين قد مرت على اختتام الملتقى لفعاليته ومنذ لحظة توجيه تلك الرسالة لم نلمس آو نعثر على أي اثر لتوصياته والخلاصات النهائية التي سطرها وبهذا لا يختلف كثيرا عن باقي المؤتمرات أو المسرحيات التي نشاهدها بين الفينة و الأخرى على شاشات التلفزيون وتتخذ من مأساة الشعب السوري مطية لها لتنفيذ أغراضها الدنيئة ,بعيدا عن التحامل آو الضغائن الشخصية أقول كونوا أكثر صدقا يا من تعتبرون وتصنفون أنفسكم مثقفين وشخصيات من كواكب أخرى تجيد لغة التنظير والوعيد واللعب على الحبلين ..
خمسة أسئلة موجهة للفنان سميح شقير راعي الملتقى :
_ كيف جاءتك فكرة الملتقى ؟ الم تتاخر في انتاج هكذا مبادرة ؟
الفكرة كانت موجودة منذ مدة طويلة ليقيني بضرورة هكذا لقاء في الظروف التي نعيشها إلا آن الفرصة سنحت حينما تم تداول الفكرة بيني وبين الصديق يحييى القضماني وهو المعروف باهتمامه ودعمه للشأن الثقافي منذ زمن بعيد
وهكذا فقد أخذ على عاتقه دفع تكاليف إنجازه مما جعل ذلك ممكناً
هل واجهتك صعوبات في اختيار الشخصيات المشاركة ؟ وعلى اي اساس تم اختيارها ؟
ليس من صعوبات حقيقية اعترضت تحقيق هذا اللقاء لان التجاوب كان رائعاً من قبل الشخصيات المدعوة وان دل هذا على شيء فهو يدل على إحساس عال بالمسؤولية للفكر والكلمة للمساهمة في قراءة واقع الثورة وتدقيق بوصلتها ، آما معايير الدعوة فكان لها ثلاثة مساحات ، الأولى فيها عدد من المفكرين السوريين المكرسين والثانية فيها عدد من الشباب اللذين لمعوا فكرياً خلال الثورة والثالثة ضمت عدد من الفنانين اللذين كان لهم أدوار فكرية خلال القترة الماضية من عمر الثورة
وهذه الصيغة فيها اجتهاد وحرص على تنوع المشهد الثقافي السوري
وبالطبع كان ممكناً دعوة العشرات من المميزين في الساحة الفكرية السورية إضافة لمن حضر إلا أنها خطوة أولى مرهونة بالإمكانات أكثر من أي شيء آخر , آن منسوب الدم والتضحيات تجعل من أي مقاربة لا توقف القتل آو تحقق الانتصار .. تجعلها بنظر الكثيرين عبثية آو غير ذات معنى
ولكني لست مع هذا الطرح بل أرى انه لا بد من تضافر كل أشكال العمل
التي تدعم مسار الثورة وكلنا يذكر المساهمات الفعالة لكثير من الفنون في دفع الحراك وإعطائه مزيداً من الزخم وهكذا يبدو لي بأن العمل الفكري الذي يحلل واقع الثورة ويشير إلى الأخطاء ويطرح الرؤى
وسط تعقيد المشهد لهو عمل بالغ الأهمية برأيي
_ في الكلمة الافتتاحية للملتقى اثرت نقطا هامة بل وشديدة الاهمية بخصوص الثورة السورية المباركة , بصراحة هل ارتقى الملقتى لحجم التضحيات الجسام التي بذلها الشعب السوري البطل ؟
عبرت الرسالة التي وجهها ( الملتقى ) إلى الشعب السوري عن توافق المشاركين بتنوع مشاربهم الفكرية
على رؤية مشتركة .. وهذا بحد ذاته
شيء جيد وأيضا لا يخفى المعنى العميق من لقاء على مستوى وطني
في الوقت الذي نسمع مؤخراً عن لقاءات عديدة على مستوى العشائر والطوائف وهذا الارتكاز بإعادة إحياء مكونات ما قبل الدولة ,
_ ما هي الخلاصات التي خرجت بها من هذا الملتقى وما درجة رضاك عن فعالياته ؟
آما عن الرضا فالموضوع نسبي ، لقد كانت خطوة جيدة ونأمل آن يستمر التفاعل بين المثقفين وأصحاب الفكر تجسيداً لانتمائهم
ودفاعاً عن أبناء بلدهم وانتصاراً لأهداف الثورة ،.
_ هل سيكون هذا الملتى بداية عهد جديد بين المثقف السوري وثورة شعبه بعيدا عن الشعارات الرنانة ؟
إنها لبنة في مدماك نأمل آن يتم البناء عليها ولكن علينا ان نتذكر ان المشاركين لم يكونوا حزباً ليأخذوا منظوراً واحداً ولم يكونوا قيادات سياسية ليأخذوا القرارات ولم يكونوا جهة إغاثية لينجم عن لقائهم
قوافل إغاثة ، إنهم مثقفون جاؤوا من كل سوريا بتعددهم الفكري جاؤوا يؤكدون انتمائهم لهذا الشعب العظيم وليضعوا إمكاناتهم بالفكرة والموقف وتصويب الرؤى بين يدي أبناء شعبهم ،
وسأغتنم الفرصة لأشكرهم لتلبية الدعوة وأيضا على كثير من الحب
لمسته في عيون المشاركين وفي حرص معظمهم على آن يشكل هذا الملتقى علاقة أعمق مع الشارع الثائر وجراحات الوطن.
المثقف السوري و جلباب الثورة الفضفاض "الملتقى الفكري السوري نموذجا "
عادل العوفي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية