خالد فاضل كاتب إسلامي سوري، سجن بين عامي (1980-1982م)، يتحدث في (208) صفحات عن أخبار المعتقلات، وما لاقاه فيها من صنوف التعذيب والإهانات، كما يتحدث عن أخبار المعتقلين وحالات الصفاء والسمو الروحي العالية التي يعيشونها داخل أقبية السجون، على الرغم من الذل والهوان الذي يواجهونه من قبل سفاحي الأسد.
يقدم فاضل لمذكراته بقوله:
"إننا بإصدار هذه الذكريات عن سجن الموت في تدمر، ونقل معاناة أولئك الأحرار الأسرى، نريد أن نشهد العالم أجمع.. نريد أن نشهد الدنيا بأسرها على جرائم هذا الملعون ابن الأفاعي، لعل الحس الإنساني يتحرك فيهم، فيبادروا إلى فعل حاسم يجتث هذا السرطان من جسم أمة العرب، لينقذوا العرب والمسلمين من خبائثه وجرائمه..".
يذكر السيد خالد فاضل في البداية نماذج – مما جرى معه قبل اعتقاله - مستمدة من واقع الشعب، للتعبير عن حالة الخوف والهلع والقلق التي وقع فيها الشعب، نتيجة ممارسات السلطة الباغية في الاعتقال، والتعذيب، والتنكيل، الذي فاق حدود التعسف والطغيان كلها، ولم يكن بإمكان أي مواطن سوري أن يخرج نفسه من دائرة هذا البلاء العام، ذلك أن هذه الممارسات الهمجية لم تكن محدودة في طبقة معينة من طبقات المجتمع، بل إنك تستطيع أن تدخل أي سجن في هذه الأيام من سجون النظام المنتشرة في أرجاء سورية كلها لترى أن هذا السجن قد ضم بين جنباته في وقت واحد الشرائح الاجتماعية الموجودة في المجتمع من الطبيب إلى الأستاذ إلى المفكر إلى المهندس إلى العامل إلى الموظف.. إلى آخر ما هنالك في السلسلة الطويلة التي تبدأ ولا تنتهي.
كانت أفواج المعتقلين تتوالى إلى معتقل (كفر سوسة) حيث كانوا يتعرضون لبرنامج طويل عريض من التعذيب والضرب الرهيب، ثم تجري لهم محاكمات صورية يجبرون بعدها على التوقيع على وريقات دون أن يسمح لهم بقراءة حرف واحد فيها.
يحكي الكاتب صوراً من التعذيب، فيشير إلى شاب صغير اسمه إسماعيل يصرخ متألماً باكياً شاكياً مستغرباً يقول: "إيش بتريدوا دخيلكن؟ وهم يضربونه بالكرابيج، ويلكمونه، ويرفسونه، ثم يلقونه أرضاً، ويوسعونه ركلاً حتى تسيل الدماء من وجهه وشفتيه، ويغيب عن الوعي أو يدخلونه في الدولاب، ويذيقونه مر العذاب، ثم يقومون بعد أن يتعبوا، ويكلوا، بتوجيهه إلى الجدار حيث العصا الرهيبة في الانتظار، تفلق الرؤوس، وتحطم الظهور، وتدفع من انتهى أجلهم إلى القبور".
ويحكي كيف أمسك أحدهم بشعر لحيته، وبدأ بنتفها، ولما تأوه لكمه على وجهه.. فكان أن صبر قليلاً على الضرب والتعذيب، ولكن نفد صبره وكاد يغيب عن الوعي، فصرخ مرة ومرات ثم انفتح فمه بالزعيق، فما شعرت إلا وحذاء ضخم يصك أسنانه ويكاد يسد حلقه، حتى غاب عن الوجود.
تحدث الفاضل عن مجزرة تدمر الأليمة.. لقد شاهد الكاتب آثارها بعينيه ولمسها بنفسه.. .. "كانت هناك مجموعات كبيرة من المعتقلين يقدر عددها ما بين (30) إلى (80) معتقلاً يجري إعدامهم كل بضعة أيام وبصورة منتظمة، لتمتزج أصوات قراء القرآن والمؤذنين المنبعثة من مساجد (تدمر) العامرة بالإيمان بأصوات ضرب الكرابيج، وصراخ المعذبين، واستهزاء الفسقة بكل ما يمت إلى الله والإسلام الحنيف بصلة.."
كان الزبانية المنحطون من معدومي الضمائر وحثالات الشعب يغرسون أعقاب السجائر في الرقاب والوجوه، ويحرقون الأصابع والآذان بـ... بقداحات الغاز..!! وفي الوقت نفسه كانت فيه الأمراض بأنواعها وأشكالها تغزو مهاجع المعتقلين وأجسامهم، وتفتك بها أشد الفتك، فوق كل ما هم عليه من الفتن والمحن والبأساء والضراء.
مشاهد قاسية وحشية يقصها علينا الكاتب، تبلغ ذروتها في يوم 26 (حزيران) 1980م وبعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها السفاح الأكبر حافظ أسد من قبل بعض عناصر الحماية الخاصة به، جرت عمليات إبادة واسعة في السجن. "فكان الفسقة يقومون بإلقاء القنابل إلى داخل المهاجع المكتظة بساكنيها لتقتل من تقتل وتمزق من تمزق، ومن لم يمت فإنهم يقتلونه ذبحاً أو يطعنونه بحراب البنادق.. وهكذا قتل قرابة (1000) إنسان في خلال ساعة واحدة من الزمن البائس."
يسهب الكاتب مشاهد الإعدام، فلا تستطيع قراءتها حتى النهاية، فكيف بمن رآها وعاناها... كانوا يجيئون بالمعتقل ويقولون له: "(بدنا ننقلك إلى سجن آخر) فإذا وصلا به إلى المشنقة قالا له: هذه هي السيارة، ويضعان الحبل في عنقه، ويكون اثنان من رجال السجن قد أمسكا بالمشنقة ثلاثية الأرجل، وأمالاها جهة المعدم، فإذا وضع الحبل في عنقه أقاماها بقوة حتى تقف على قوائمها الثلاث ،ويرتفع الأخ المعلق بها وهو يهتف: "الله أكبر" .. وكثيراً ما كان يعاجله الحبل، فلا يتمها، فيزفر، ويحشرج حشرجات الموت، ثم يسلم الروح".
الكتاب مذكرات عنيت بالتفصيل في التعامل العنيف مع السجين، ووصفت بدقة البيئة الرهيبة التي عاش فيها المعتقلون، إنها غنية بالتفاصيل المباشرة المجردة، المشاهد فيها تتلاحق تحت عناوين فرعية تلخص الحدث، و تعطيك فكرة واضحة عن المحتوى، لتكون صفحاته صرخة من قلب جهنم تدمر.. ذاك ما أمله الكاتب، ونأمله معه: (إنها صرخة أرجو ألا تذهب في واد.. وإنه استعراض لأصحاب الضمائر الحية والقلوب الخيرة، علهم يتحركون ضمن حدود طاقتهم وقدرتهم لفضح هذا النظام الفاجر.. القائم على الحديد والنار)..
رواية "في القاع... سنتان في سجن تدمر "
سماح حكواتي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية