أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مستشفيات غوطة دمشق الميدانية... دماء غزيرة و تجهيزات عزيزة وموت ينتظر

حقيبة بمعداتٍ متواضعة "أكياس قطن، قليلاً من الشاش وأبرمضادة للالتهاب،بعض المعقمات مفجّرات صدرٍ قد تتواجد وربما لا"، وغرفة صغيرة متقشفة بجدرانها الباردة، تؤوي ممرضاً أو طبيباً، وجراحاً تنزف، ستشكل بمجموعها مشفى ميدانياً، يتموضع في قلب الغوطة الشرقية، يحاول من فيه إنقاذ حياة الأبرياء أو تأخير موت لا يتوقف.

إشارات وإيماءات، عديدة تطلب مني أن لا أذكر حتى لو تلميحاً، أي تفصيلٍ يمكن أن يشي بمكان هذا المشفى، والسبب أن العديد من المشافي سبق وتعرضت لقصف قوات النظام، كما أخبرني أحد الناشطين حيث قادني إلى هناك، شارحاً أنه سبق وتم تجهيز عدة مشافي لكن عيون الأمن وصلت إليها وتم تدميرها بما فيها.

الموت لمن ينقذ حياتهم!
المشفى هنا في حالة استنفارٍ كاملٍ ودائم لمعالجة مصابين يتضاعف عددهم يوماً بعد يوم، لكن نقص الكوادر الطبية، ونقص المواد الأساسية يبقى عائقاً أمام إنقاذ حياة كل من يدخل إلى هذا المشفى، فإصابات الرأس لا يمكن فعل شيءٍ حيالها، حسب ما يخبرنا الطبيب الوحيد في المشفى.

"كل ما نملكه بعض المعدات اللازمة للإسعاف الأولي، والعمليات الجراحية البسيطة" يهمهم الطبيب بشفتين تعضان حزناً لا يفارق محياه، ورغم يقينه ومن معه بتبعات إنقاذهم لحياة من يريد النظام قتلهم، يؤكد لنا أنهم يقومون بأداء واجبهم ولا خوف ينتابهم إلا على حياة الناس في هذا المكان.

من أين إذاً تؤمنون متطلبات عملكم؟ سألته لكثرة ما يقال عن إمداداتٍ طبية وصلت إلى سوريا، ليجيب أن كل ما بين أيدينا لا يكفي لتغطية الاحتياجات المتزايدة يوماً بعد يوماً، ومعظم المساعدات نحصل عليها من الداخل، عبر علاقاتنا بالأطباء، وما يتم الحديث عنه حول تجهيز مشافي ميدانية ليس أكثر من وعود.

وماذا عن الكادر الطبي؟ يحدد الطبيب جوهر المشكلة لـ"زمان الوصل" بمكان المشفى ضمن مناطق بعيدة،ما يحجب عنهم مساعدة العديد من الأطباء المتبرعين، كما تمنعهم الحواجز الأمنية الكثيفة من الوصول إلى المشفى.

"هناك نقص في بعض الاختصاصات كالتخدير والعينية وأطباء الأوعية" يختصر الطبيب بغيض من فيض الصعوبات التي تعترض عملهم، ففي بعض الأحيان تتوافر الحقائب الطبية لكن لا يتواجد الطاقم الطبي المؤهل،ما يشكل عجزاً كبيراً بالنسبة لهذا الجانب.

هونداي الإسعاف
يقطع أحد المسعفين حديث الطبيب منبهاً إلى وصول واحدة من الإصابات يستعد الشباب لتنزيلها من سيارة (سوزوكي) مخصصة لنقل البضائع أو (الهونداي ) كما يسميها الدمشقيون، يتعرف إليه الطبيب، فهو آتٍ لتغيير ضماد جرحه بعد نجاح عملية أجراها له منذ أيام.

عندما عرف بوجود الصحافة تحدى الجريح الحالة الصحية التي لا تسمح له بالحديث ليقص ما حدث له "كنت في الشارع حين بدأ القصف، حيث أصابتني أنا وأخي شظايا الهاون، واستمر النزيف أكثر من ساعة، لاستمرار بحثنا عن طريقٍ آمنٍ لا تتواجد فيه حواجز الأمن والشبيحة، وأسعفنا الأهالي إلى المشفى الميداني".

او يكرر المصاب قصصاً لا زالت تحدث عن استحالة الذهاب للمشافي االحكومية ،خوفاً على أنفسهم وعيالهم،"فمصابو المظاهرات كانوا يدخلون المشفى الحكومي ولا يخرجون أحياء"،و لا يخفى على الجريح ضعف إمكانيات المشافي الميدانية، "لكن الشباب همتهم عالية".
تتشابه القصص جميعها، فداخل هذه المشفى مصاب آخر أصابته رصاصة قناص في قدمه، عمل الكادر الطبي على قطع الشريان لإيقاف النزيف، كما شرح لنا الممرض المعالج،لكن هناك رصاصةً أخرى استقرت في المفصل،يعجز هذا المشفى بتواضع إمكاناته أن يخرجها، لأنها تتطلب أجهزة شعاعية متطورة.

وحال هذا المصاب كحال غالبية أهالي المناطق المنتفضة، أصيب في ذراعه برصاصٍ حارقٍ متفجر، يفتت العظام، كما شرح لنا الطبيب، لكن جذوة الثورة لا زالت مشتعلة في داخله، حيث يتوعد الأسد ونظامه، ويقول: "لقد سجنت خلال الثورة لمدة أربعة أشهر، وذقت خلالها الكثير من أنواع العذاب التي يمارسها النظام".
و لم تمنعه الإصابة من التعبير عن إصراره على السير في طريق الحرية،"فاليوم أصبت بيدي اليمنى سأحمل علم الثورة باليسرى وأمضي"،و ينهي الشاب حديثه بشعار الثورة الأهم "الموت ولا المذلة"

أكثر من التطوع
اقتضى حل مشكلة نقص طاقم التمريض تدريب أبناء المنطقة من المتبرعين المدنيين، منهم من يعمل في الإسعاف ونقل المصابين ومنهم من يقوم بتغيير الضمادات والإسعافات الأولية. 
في المشفى الميداني لا تعويل إلا على همة الشبان المتطوعين، في ظل شح الإمكانات فهاهم ثلاثة شبانٍ وفتاة يواصلون عملهم، يغيرون الضمادات، ويسعفون المصابين، وينفذون أوامر الطبيب، لأعلم لاحقاً أن أحداً منهم لم يدرس التمريض يوماً، فطالب الهندسة المكيانيكية، ترك دراسته في سنته الأخيرة، وتفرغ لإنقاذ أبناء بلده، يقول لنا: "تعلمت التمريض في المشفى الميداني، مع إدراكي الكامل لخطورة هذا العمل، لكننا نقاوم بطريقتنا، لا يمكننا أن نترك هؤلاء الناس يموتون".

ألا تخشون على مستقبلكم ومستقبل ذويكم؟ تجيبني الفتاة القادمة من دمشق إلى الريف: "نحاول أن نعمل ما علينا القيام به، كنت أعمل في أحد المشافي الميدانية في دمشق، وعلمت بنقص الكادر الطبي الذي تعاني منه الغوطة - وهو حال غالبية المشافي الميدانية- لذلك أتيت، فهذا طريق الحق وهو واجبنا". 

بلقيس أبوراشد - دمشق - زمان الوصل
(127)    هل أعجبتك المقالة (108)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي