إن التعليل وراء تأسيس ودعم القطاع العام الصناعي (على أنقاض شركات مؤممة في الستينات من القرن الماضي) من قِبَل حزب البعث السوري الحاكم، صاحب التوجه الإشتراكي، هو استيعاب القوة العاملة، خشية استغلالها من الطبقة "الرأسمالية" و"البرجوازية"، وخلق منتجات وطنية منافسة، وبأسعار متهاودة تُسهم في رفع السوية المعاشية للمواطن السوري، ولكن بسبب افتقاد الرشادة الحكومية بات تطبيق شعار "تملك العمال لوسائل الإنتاج" على حساب الانتاجية والتنافسية وهدر الموارد القومية، خاصة في غياب المحاسبة والشفافية، واستشراء الفساد، ووضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب حسب الولاءات وليس الكفاءات، مضافاً إليها تقييد مدراء القطاع العام بلوائح الإدارات المركزية التي تعرقل اتخاذ أية قرارات جادة ومنشطة ومبدعة، حتى بات القطاع العام بمثابة جمعية خيرية لحماية العمال
رغم كل الرعاية والحماية لهذا القطاع، فقد انخفض الإنتاج الصناعي السوري للقطاع العام 15 بالمائة مابين عامي 2000 و2008 وإن إلقاء نظرة فاحصة على الصناعة التحويلية السورية تبّين أن القطاع العام الصناعي في وضع صعب جداً، وأنه لا يقوى على المنافسة، ولا على العمل بكفاءة، بدليل أن معظم الصناعات التي دخل فيها القطاع العام بإدارة حكومية – غير رشيدة - إما قد انخفض انتاجها بشكل كبير، أو أنه ارتفع بشكل طفيف لا يناسب حتى معدل النمو السكاني 2.3%، من مثل ارتفاع انتاج المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 2% خلال أربع سنوات منذ عام 2004 إلى عام 2007، أو انخفاض انتاج الألبسة بمعدل 1% خلال أربع سنوات؟ (علماً أنها انخفضت منذ عام 2000 بنسبة 34%) وأما الصناعات التي أثبتت فشلاً ذريعاً فهي الورق ومنتجاته، والدبغ وصناعة الجلود، والخشب والمنتجات الخشبية، والمنتجات المطاط واللدائن (انخفضت بنسبة 67% منذ عام 2004) وكذلك منتجات المعادن المشكلة، عدا الماكينات والمعدات التي انخفضت بنسبة 53 بالمائة. لقد انخفض انتاج 54 صناعة من أصل 93 صناعة تحويلية دخلها القطاع العام مابين عامي 2004 و2008 - حسب المجموعة الإحصائية السورية 2009- مما يدلّ على حالة انتاجيتها المتدهورة، وتراوح إداراة معظم مشاريعها بين السيئة والفاسدة، إضافة لضعف إمكانيتها التنافسية، وخسارتها للسوق المحلية فضلاً عن العالمية لصالح القطاع الخاص
واقع عمالة القطاع العام يُظهر الكفاءة المتواضعة للغاية لتلك العمالة، حيث يحمل أكثر من ربعها الشهادة الإبتدائية وحسب، وأما 14٪ منهم فهم من حملة الشهادة الإعدادية غالبيتها يعمل في الصناعة، الأمر الذي يعد غير مقبول في عصر التكنولوجيا وشيوع استخدام الحواسيب الآلية وكل تقنيات التواصل، وأما حملة المعاهد والجامعات فنسبتهم 44٪ من مجموع العمالة السورية في القطاع العام بكل نشاطاته بما فيها الصناعي. وضع العمالة في القطاع العام أقل قسوة من عمال القطاع الخاص،حيث يتقاضى 72٪ منهم أكثر من 9000 ليرة سورية بينما نسبة من يتقاضى هذا المبلغ في القطاع الخاص لايشكل أكثر من 41٪، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط إنفاق العائلة السورية حوالي 30 ألف ليرة سورية (حوالي 600 دولار) 13 ألف ليرة سورية منها على الغذاء - حسب مسح الإنفاق الحكوي 2010 - إذن تقريباً معظم عمال القطاع العام (وحتى الخاص) تحت خط الفقر
هذا الانخفاض في إنتاج القطاع العام الصناعي ليس هو المشكلة الوحيدة، ولكن المشكلة الأكبر هو المخزون غير المسوّق، والذي يكدس في المخازن حتى ينتهي به المطاف للإتلاف، وللأسف هناك حالات فساد في بعض شركات القطاع العام تحدث بشكل شبه دوري حريق يُعزى لأسباب واهية (ماس كهربائي) وتسَجّل الحادثة "ضد مجهول"، ولايمكن بذلك معرفة المخزون الحقيقي وحجم المباع منه، أو المسروق.
واقع الأمر أنه لو استمر تدهور القطاع العام الصناعي السوري دون إصلاحات عاجلة، ومبادرات إدارية فاعلة، وحاسمة وجريئة لا تُربك سوق العمل السوري، وتكون ضمن إطار الشفافية التامة، فإن معظم شركات القطاع العام الصناعي ستتوقف مستقبلاً على طريقة شركات الأنابيب المعدنية، وخشب المعاكس، والإطارات الداخلية وغيرها، و سيخرج القطاع العام من أكثر من 50 صناعة في حلول 2015، والحكومة إلى الآن طرحت 17 شركة قطاع عام متعثرة للاستثمار الخاص حسب التقرير الاقتصادي لاتحاد العمال لنقابات العمال السوريين في مؤتمره السنوي 2010
إن الحكومة بحاجة إلى مواقف جريئة من أجل وقف النزيف الذي يسببه ترهل وفساد القطاع العام، عن طريق القيام بإجراءات إدارية إصلاحية.
١- اختيار مدراء القطاع العام حسب تاريخهم الوظيفي، وكفائتهم، دون اللجوء إلى التعيينات الحزبية التي تستند إلى تقارير أمنية، ووساطات ممجوجة كانت وراء هدر أموال القطاع العام عبر أربعة عقود
٢- تمكين الأكفاء من العمال والموظفين، وإخضاعهم لدورات تأهيلية وتدريبية على أعلى مستوى من الفنون الإدارية، والمستويات التكنولوجية
٣- استبدال خطوط الإنتاج القديمة بحديثة، وإصلاح ماعطل منها إن أمكن بالسرعة القصوى
٤- إعطاء الصلاحيات الواسعة لمدراء القطاع العام، والتخلي عن فكرة الإدارة المركزية التي قتلت أي مبادرة في القطاع العام
٥- البحث في ملفات الفساد السابقة والحالية، والبدء بتنظيف القطاع العام من الوصوليين، وغير الأكفاء، خاصة في قسم المشتريات التي تكثر قصص تواطؤهم مع الموردين من القطاع الخاص، أو المدراء السابقين والحاليين الذين استوردوا تكنولوجيا قديمة ومنسقة من أجل قبض العمولات، وإعادة هذه الأموال لضخها في صالح نفس القطاع العام لإعادة تأهيله.
كل التوصيات السابقة يجب أن تتم في أجواء رشيدة تتمتع بالشفافية، ولا يعيث فيها الفساد والبيروقراطية، و يجب توافر صحافة حرة تراقب أين تصرف الأموال العامة، لذا فإن الرشادة الحكومية شرط أساسي لأي حلّ.
إن حالة القطاع العام الصناعي الإنتاجي السوري تستدعي إجراءات إسعافية، ولكن يجب أن تكون ضمن خطة رشيدة شاملة، تُطبّق بشفافية، تسعى لتحاشي أية تكاليف اجتماعية، لأن آخر مايريد الجميع هو رفد جيش العاطلين عن العمل بالمزيد من العمال، وتعريض العائلات السورية لضغوط اقتصادية إضافية، وواقع الأمر أننا لو استثنينا العاملين في الصناعة الإستخراجية (22 ألف عامل)، والماء والكهرباء (63 ألف عامل)، فإن حجم القوة العاملة في الصناعات التحويلية للقطاع العام هي 102 ألف عامل تعمل تقريباً في مائة صناعة تحويلية، لذا يجب عدم تضخيم حجم المشكلة، كما لايجوز التقليل من شأنها.
إصلاح القطاع العام يطال إذن 102 ألف عامل، بمعنى أنها مسألة تتعلق بعمال الصناعة التحويلية والذين يشكلون 11٪ فقط من حجم العاملين في القطاع العام، وأي حديث حول إصلاح القطاع العام يجب ألايخرج عن هذا الإطار، ولايوظّف سياسياً، أوشعاراتياً كما يحلو للبعض، إما جهلاً بالواقع، أو للحفاظ على مكتسبات ترهل القطاع العام الصناعي.
لقد أغدقت الحكومة السورية ولا تزال أموالاً طائلة على دعم القطاع العام وتنميته، فلقد بلغ حجم رؤوس المستثمرة في القطاع العام الصناعي مابين عامي 2004 و2008 ماعدا كل ماصُرف على مؤسسات الخبز والمطاحن والغاز والفوسفات والنفط والكهرباء 116 مليار ليرة سورية، فلو أن هذه الأموال وزّعت على 102 ألف عامل في الصناعة التحويلية في القطاع العام الصناعي كلهم، ستكون حصة الواحد منهم أكثر من مليون ليرة سورية.
ترى لو خُيّر هؤلاء العمال الذين بلغت أجورهم 25 مليار ليرة سورية عام 2008 أن يأخذ كل واحد منهم مليون ليرة سورية، ليبدأ بها مشروعاً صغيراً، بدل إضاعة الموارد القومية في مصانع بالية، بإدارات مهترئة، أليس من المنطقي أن يختاروا مبلغ المليون على إضاعة الوقت في تكديس منتجات معظمها لاتجد مصرفاً؟ إذاً لو رضي أن يأخذ كل عامل في قطاع الصناعة التحويلية مليون ليرة سورية ليغادر القطاع العام إلى مايحبّ، فهذا معناه أن سورية ستوفر سنوياً 50 مليار ليرة سورية، بمعنى أنه خلال عشر سنوات تكون ربحت سورية أكثر من 500 مليار ليرة سورية، يمكن للحكومة – الرشيدة طبعاً - أن تعيد توظيفها في رفع مستوى التعليم والصحة، وإعطاء قروض طويلة الأجل دون فائدة للقطاع الصناعي من أجل خلق فرص عمل، ومن أجل النهوض بالصناعة السورية، وتأهيل عمالها فنياً وإدارياً وتكنولوجياً، ودعم المحروقات، ودعم المشافي المجانية للفقراء، ودعم الطاقة، والخبز، هذا فضلاً عما ستربحه لقاء بيعها أو استثمارها للقطاع الخاسر، والذي سيخلق فرص عمل حقيقية، ويوقف نزيف الفساد الإداري الذي استمر طيلة أربعة عقود، وبنفس الوقت تكون قد امتصت أية كوارث اجتماعية من جراء إعادة هيكلة القطاع الصناعي السوري.
إن صلاحيات وزير الصناعة في سوريا محدودة في مسألة إصلاح القطاع العام، فهو قد يفرض معايير ربحية على القطاع العام، وأهداف يجب تطبيقها للمؤسسات الخاسرة، لكنه لا يستطيع تجاوز القيادة القطرية لحزب البعث، ومن ورائهم كل المستفيدين من هذا الوضع المرَضي للقطاع العام، إضافة إلى أنه لايستطيع التدخل في شأن وزير الإعلام الذي لا يتوانى عن إغلاق أي صحيفة خاصة تتحدث عن أي مظهر للفساد سواء في القطاع العام أو في غيره من أجل الإصلاح، وكذلك لايمكن لوزير الصناعة الضغط على وزير العدل من أجل مطالبته باستقلال القضاء وتفعيله، من أجل ضمان الرشادة الحكومية، وكذلك لايجرؤ على ردّ طلب سلطة الأجهزة الأمنية فيما لو أراد أيّ من رؤساء الأجهزة الأمنية أو المقربين منهم تعيين أحد ما في مؤسسات القطاع العام.
إذاً ضمن هذه المعطيات الواقعية جداً، والتي يلمسها المواطن كل يوم، وتشير كل المؤشرات العالمية إليها، يجب البحث عن حلول أكثر عملية، من أولها إعادة هيكلة القطاع العام إدارياً، مروراً بطريقة الاستئجار الاستثماري، أو إيكال إدارتها لشركة خاصة بعد إعطائهم صلاحيات واسعة دون التدخل في قراراتهم، أو التشارك الاستثماري مع القطاع الخاص، وانتهائاً ببيعها، ولكن أي حل يبقى مخيفاً ضمن المناخ غير الرشيد، وعندها يبقى المواطن السوري يشاهد بأمّ عينه هدر الأموال العامة، سواء في حال وجود قطاع صناعي عام خاسر، أو في حال إهدار ما حصّلته الحكومة بعد بيعه، فلا إصلاح للقطاع العام ولا تنمية اقتصادية حقيقية دون رشادة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية