تفتح شهادة الباحث الأميركي "تشارلز ليستر"، الخبير في شؤون سوريا لدى معهد "الشرق الأوسط"، نافذة غير مسبوقة على ما شهدته محافظة السويداء بين 11 و16 تموز/يوليو، من تصعيد دموي خلّف أكثر من 100 قتيل، وأعاد رسم خريطة السيطرة والتحالفات داخل واحدة من أكثر المناطق تعقيدًا في المشهد السوري.
في سلسلة منشورات وصفها مراقبون بالدقيقة وغير المتحيزة، قدّم ليستر رواية تحليلية للأحداث استندت إلى مصادر ميدانية، ومعاينة مباشرة للمعطيات، بما فيها لقاء سابق جمعه بالشيخ حكمت الهجري، المرجع الروحي لطائفة الموحدين الدروز، في شباط/فبراير الماضي.
شرارة الصراع: شاحنة خضار وخطف متبادل
بدأت شرارة الأحداث في 11 تموز، عندما هاجم مسلحون بدو شاحنة خضار درزية على طريق دمشق–السويداء، اعتدوا على سائقها وسرقوا حمولتها. في اليوم التالي، ردّ مسلحون دروز باختطاف 8 من أبناء البدو، الذين ردوا بدورهم بخطف 5 دروز.
في 13 تموز، انهارت محاولات الوساطة، واندلعت اشتباكات عنيفة غرب السويداء وداخل المدينة، ترافقت مع قصف متبادل وقطع طرقات، وسقوط نحو 30 قتيلًا خلال الساعات الأولى، معظمهم من المقاتلين، بحسب ليستر.
دخول الدولة.. لأول مرة منذ سقوط الأسد
في 14 تموز، نشرت الحكومة الانتقالية قوات من الجيش ووزارة الداخلية داخل السويداء، للمرة الأولى منذ سقوط نظام الأسد، في محاولة للسيطرة على الوضع الأمني.
هذا التدخل شكّل خرقًا واضحًا للاتفاقات السابقة التي منعت دخول أي قوات حكومية إلى المحافظة، في إطار خصوصية إدارتها الذاتية.
لكن بعد ساعات فقط من إعلان وقف إطلاق نار أولي، رفض الشيخ حكمت الهجري الاتفاق، ودعا إلى "مواصلة القتال"، متّهمًا خصومه بـ"التكفير والإرهاب"، وفق وصف ليستر.
إسرائيل تدخل على الخط
في التوقيت نفسه تقريبًا، بدأت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية، استهدفت مدرعات وشاحنات للقوات الحكومية السورية في محيط السويداء.
ووفقًا للمصادر، فإن الضربات تزامنت مع كمائن مسلحة نصبها مقاتلو "مجلس السويداء العسكري"، التابع للهجري، ضد الجيش السوري في تسعة مواقع متزامنة داخل المدينة.
وحتى مساء 15 تموز، بلغ عدد القتلى 118، بينهم:
- 41 من عناصر القوات الحكومية
- 7 من عناصر ميليشيات درزية موالية
- 19 من المسلحين البدو
- 49 من المسلحين الدروز
- مدنيان اثنان
الهجري.. الحليف المحلي لإسرائيل؟
تكشف سلسلة ليستر أن النواة الصلبة للتمرد المسلح في السويداء كانت بقيادة "مجلس السويداء العسكري"، الذي تشكّل بعد سقوط الأسد، ويضم ضباطًا من جيش النظام السابق.
هذا المجلس، بحسب تقارير استخباراتية إقليمية، يحتفظ بسيطرة كبيرة على تجارة المخدرات المرتبطة بمنظومة الكبتاغون التي أسسها النظام السابق.
ويؤكد ليستر، الذي التقى الهجري في شباط/فبراير، أن الأخير أبدى عداءً صريحًا للمرحلة الانتقالية، واصفًا رموزها بـ"التكفيريين"، ومشيرًا إلى انفتاحه على "الحماية الخارجية"، في إشارة إلى إسرائيل.
وعندما سأل ليستر مقاتلين مقرّبين من الهجري عن علاقة المجلس بتجارة الكبتاغون، تجاهلوا السؤال تمامًا.
رفض الهدنة.. مرتين في 24 ساعة
في 16 تموز، تم إعلان وقف إطلاق نار ثانٍ، وافق عليه معظم قادة الدروز، لكن الهجري رفضه مجددًا، ودعا مقاتليه لمواصلة المعارك. بعد دقائق فقط، استأنفت إسرائيل قصفها، مستهدفة وزارة الدفاع السورية في دمشق، ومحيط القصر الرئاسي، وعدة قواعد عسكرية، بالإضافة إلى مواقع داخل السويداء.
وسرعان ما تصاعدت الاتهامات ضد الهجري من داخل طائفته؛ إذ اتهمه الشيخ يوسف الجربوع بمحاولة "احتكار القيادة"، فيما وصفه ليث البلعوس بأنه "عنصر تخريبي يعرّض السويداء للخطر".
الهدنة الثالثة: تسوية بنكهة أميركية
بوساطة أميركية، تم التوصل إلى هدنة ثالثة خلال 36 ساعة، وافق عليها جميع الأطراف، بمن فيهم الهجري. وتضمنت الاتفاقية انسحاب القوات العسكرية من السويداء، وتسليم الأمن إلى وزارة الداخلية وقوات محلية درزية. وتشير بنود الاتفاق إلى اندماج تدريجي للمحافظة في الدولة السورية الانتقالية، وتقليص نفوذ الهجري.
تضليل وتضخيم.. تحذيرات ليستر
حذّر ليستر من موجة تضليل إعلامي رافقت الاشتباكات، مشيرًا إلى انتشار تقارير خلال ساعات فقط عن "مجازر"، و"اقتلاع قلوب"، و"حرق نساء وأطفال أحياء"، مؤكّدًا أن معظمها مختلق.
وبحسب المرصدين الأقدم في سوريا، فإن نسبة النساء والأطفال بين الضحايا المؤكدين لا تتجاوز 6–8٪، مقابل 76–84٪ من القتلى الذين كانوا مقاتلين.
"فرصة أُهدرت"
يرى ليستر أن كل ما جرى في السويداء خلال أسبوع، من دمار وقتل وتصعيد طائفي، كان بالإمكان تفاديه، إذ تم التوصل إلى اتفاق شامل قبل يومين، لكن "رفض الهجري" وتدخل إسرائيل غيّرا المعادلة.
ورغم أن الاشتباكات هدأت، فإن السويداء لا تزال تقف على شفير انفجار جديد، في ظل تفكك الجبهة الدرزية الداخلية، وضبابية الدور الإسرائيلي، واستمرار شبكات تهريب المخدرات، التي يراها ليستر "جزءًا لا ينفصل عن بقايا نظام الأسد".
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية