خلال الأعوام الممتدة بين 2018 و2021، وفي وقت كان فيه السوريون يصطفون في طوابير طويلة للحصول على بضع لترات من الوقود، كانت شبكة منظمة تتلاعب بمخصصات المشتقات النفطية في العاصمة دمشق، محققة أرباحاً تقدر بملايين الدولارات على حساب قوت المواطنين وآلامهم. تكشف مصادر مطلعة ووثائق يُقال إنها محفوظة في أدراج هيئات رقابية، عن تورط شخصيات نافذة، بما في ذلك عناصر من "الدفاع الوطني"، ومسؤولين في محافظة دمشق ومدير محروقات دمشق تلك الفترة إبراهيم أسعد، في إدارة سوق سوداء واسعة النطاق، بحسب وثائق.
وفقاً للمعلومات التي تم الحصول عليها، تم بناء نظام محكم للفساد، سيطر على مفاصل قرار توزيع المحروقات في دمشق والمناطق المجاورة.
ابتزاز منظم وتلاعب بالعدادات
في قلب هذه الشبكة، كان أصحاب محطات الوقود الخاصة يجدون أنفسهم مضطرين لدفع مبالغ باهظة لضمان الحصول على مخصصاتهم. أفاد أحد مالكي المحطات، الذي طلب عدم الكشف عن هويته خوفاً من التبعات، أنه كان يُجبر على دفع مبلغ يصل إلى 1500 دولار أمريكي لمسؤولين في المحافظة عن كل طلب بنزين أو مازوت خلال تلك الفترة.
ويضيف: "لتغطية هذه الرشوة وتجنب الخسارة، لم يكن أمامنا خيار سوى التلاعب بالعدادات. كنا نقتطع ما يقارب اللتر ونصف اللتر من كل 20 لتراً يتم بيعها للمواطن. كنا نسرق من الناس لندفع للمسؤولين، والمواطن هو الضحية في نهاية المطاف".
سرقة مخصصات المشاريع السكنية والخدمية
لم يقتصر الفساد على المحطات الخاصة، بل امتد ليشمل المخصصات المدعومة لقطاعات حيوية. يكشف مصدر من داخل التجمع السكني في مشروع دمر، أحد أكبر التجمعات السكانية في دمشق، كيف كانت تُسرق مخصصات التدفئة المركزية بشكل منهجي.
بحسب المصدر، كان يُطلب للمشروع حوالي 400 ألف لتر من المازوت في كل موسم شتاء بسعر مدعوم، وذلك بالتنسيق المباشر بين "الدفاع الوطني" في المنطقة، ومدير فرع محروقات دمشق في تلك الفترة، والمكتب التنفيذي المختص. كانت هذه الكميات الضخمة، التي تفوق الحاجة الفعلية للمشروع، تُمنح بشكل مخالف للأنظمة، ليتم بيعها مباشرة في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، محققة أرباحاً طائلة للشبكة المتورطة، بينما كان سكان المشروع يعانون من نقص التدفئة.
وبنفس الطريقة، تم التلاعب بمخصصات قطاع النظافة في المحافظة، والتي كانت تقدر بنحو 200 ألف لتر من المازوت، حيث كان نصفها يذهب مباشرة لتجار السوق السوداء.
المستشفيات والاتصالات: غطاء لنهب منظم
شملت السرقة أيضاً قطاعات حساسة كالصحة والاتصالات. فكانت المستشفيات الحكومية ومراكز الاتصالات تُمنح كميات من المازوت تفوق حاجتها التشغيلية الفعلية بعشرات الآلاف من اللترات. الفائض كان يتم تصريفه وبيعه في السوق السوداء، مما حرم قطاعات أخرى من هذه المادة الحيوية وأثر على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
تمييز ومعاناة في محافظة القنيطرة
امتدت آثار هذه الشبكة لتصل إلى محافظة القنيطرة، التي كانت تتلقى مخصصاتها من المحروقات عبر دمشق. أفاد أحد الفعاليات المحلية في القنيطرة بأن المواطنين كانوا يعانون من "الذل والإهانة" للحصول على حصصهم الضئيلة، مشيراً إلى وجود تمييز طائفي في التوزيع، حيث كانت المخصصات تُحرم عن مناطق وتُمنح لأخرى بناءً على الولاءات، مما فاقم من معاناة السكان في المحافظة المنكوبة أصلاً.
صراع على النفوذ وإقالة تكشف المستور
في مطلع عام 2021، ومع تفاقم الأزمة وتزايد الشكاوى، أقدم وزير النفط آنذاك على إعفاء مدير محروقات دمشق، أسعد، على خلفية ملفات فساد مالي. لم يمر هذا القرار بسلام، حيث أدى إلى نشوب صراع خفي بين محافظ دمشق ومافيا "الدفاع الوطني" من جهة، ووزارة النفط من جهة أخرى، مما عكس حجم النفوذ الذي تتمتع به هذه الشبكة وقدرتها على تحدي قرارات وزارية.
وبعد ثمانية شهور نجحت الضغوط على وتم تعينه مدير للتقانة والمعلوماتية ليبدء مشواره في تنفيذ عمليات غير قانونية تستهدف المراجعين بحسب 3 شهادات سمعتها "زمان الوصل".
دعوات لإعادة فتح التحقيق
بحسب مفتش رقابي سابق، تم توثيق كل هذه الخروقات في ملفات لدى هيئة الرقابة والتفتيش، وتم تشكيل بعثات تفتيشية للتحقيق فيها. ولكن، وكما جرت العادة في قضايا مشابهة، تدخل نافذون لإغلاق هذه الملفات قبل أن تصل إلى القضاء قبل سقوط الأسد.
اليوم، تتجدد المطالبات الموجهة إلى الجهاز المركزي للرقابة المالية وهيئة الرقابة والتفتيش بضرورة إعادة فتح هذه الملفات بشكل جدي وحاسم. فجميع الوثائق، بحسب المصادر، ما زالت موجودة في أرشيف مكتب الرقابة في وزارة النفط، وهي تشكل دليلاً قاطعاً على حجم الهدر والفساد الذي استنزف المال العام وأثقل كاهل المواطن السوري. إن تحقيق العدالة واسترداد الأموال المنهوبة لا يمثل مطلباً شعبياً فحسب، بل هو ضرورة لإعادة بناء الثقة بمؤسسات الدولة ومحاسبة كل من ساهم في تعميق جراح السوريين.
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية