لا جدل في حقّ المسلمين من الدفاع عن عقيدتهم ضدّ أي حادثة تجديف أو إساءة، لكن بدا هذا المرّة أن ثمة مبالغة في التعامل مع الحدث، ويمكن تفسير ذلك وجود أزمتين حقيقيتين في هذا الملف، الأولى أزمة تخصّ المسلمين أنفسهم على مساحة المليار و200 مليون، والثانية تخصّ أوضاع فرنسا الدّاخلية وتراكمات ملف المهاجرين ودمجهم وضعف الحوار الثقافي والمشاركة وظروف الاقتصاد على مستوى البلاد.
في أزمة المسلمين يمكن ملاحظة عدّة مظاهر، منها الصراع السياسي السنّي الشيعي الذي دمّر عددا من الدّول العربية، والصراع السياسي الديني، وكذلك الصراع الفقهي بين التيارات المختلفة، وليس أكثر دلالة على ذلك من عشرات الآلاف من المدنيين المسلمين الذين ذبحتهم جماعات متطرفة توالدت عن بعضها البعض منذ عودة "المجاهدين" من أفغانستان ورعايتهم تيارات متشددة تؤمن بالنكوص في المنهج ورفع مستوى التخويف والعنف في معالجة قضايا مجتمعية وفكرية وحتى مطلبية.
في أزمة فرنسا، يبدو أن فشل السياسات الحكومية في دمج المهاجرين من مختلف الأقليات العرقية والدينية ووجود نظام رعاية اجتماعية وصحيّة مكلف مع انتهاء حقبة الرخاء الاقتصادي منذ أزمة الرهن العقاري التي بدأت في الولايات المتحدة عام 2008، وتبعها تراجع في مستوى التنافسية وجذب الاستثمارات بسبب الضرائب المرتفعة على المستثمر والمستهلك في آن معاً. وفي عمق الأزمة الأوروبية ـ الفرنسية هناك قضية الجهاديين وأبنائهم، والكثير من الخلايا والذّئاب المنفردة التي عادت إلى الغرب بعد مشاركتها الحرب في صفوف تنظيم "الدولة"، وهذه الفئة بالذات ستجد من خطاب الكراهيات الدينية بيئة خصبة لتنفيذ عمليات إرهابية يتردد صداها في أنحاء العالم، وهذا لا يتحقق في مناطق الصراع بل في مدن أوروبية وغربية شديدة الحساسية لمثل هذه العمليات.
هل المقصود هو الإسلام؟ يتمتع المجتمع الفرنسي بقدر عال من الحريات العامة التي حددها قانون عام 1905، وبالعودة إلى قيم الجمهورية الأساسية فليس ثمة خلاف على أن فصل الدين عن الدولة كان أساساً يستهدف إبعاد الكنيسة عن المؤسسات العامة، وليس أي دين آخر، مع كفالة حرية ممارسة الشعائر الدينية لجميع أبناء الديانات والمعتقدات والتيارات دون أن يملك هؤلاء الحق في فرض طريقة عيشهم أو أفكارهم على مسار عمل الدولة أو حياة مواطنيها.
لم تخضع الحريات العامة لنقاش أو اعتراض على المبدأ طوال مئة و15 عاما، ومؤكد أن هذه القيمة لا يمكن المساس بها في الظروف الحالية، لذلك فإن أي مطالب بقوانين خاصة لجماعات دينية أو عرقية هي ضرب من الخيال، وهو موضوع لا يجرؤ سياسيون على نقاشه، وحتى اليمين المتطرف لا يستطيع جذب ناخبه باستخدام قضايا دينية أو عرقية، لكنه يمارس نوعاً من الشغب الشعوبي ذي الخلفيات الدينية المتخفيّة أحياناً، وهو ما يحصل في عموم دول أوروبا الغربية.
يدور جدل في أوروبا عموما، وفي فرنسا في كثير من الأحيان حول المهاجرين المسلمين، ويحذّر كثير من الأصوات من خطرهم على هوية البلاد المستقبلية، ويتصاعد هذا التخويف في المواسم الانتخابية، والسبب في بروز مثل هذه النقاشات هي موجة العنف التي اجتاحت العالم منذ احتلال العراق، وبروز جماعات متطرفة ساهمت في رعايتها دول وأجهزة استخبارات غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الجدل تسبب بحساسية مفرطة لدى المسلمين، وارتفعت بالمقابل أصوات تنتقد ما تسميه سياسات تمييزية وكراهية ضد المسلمين، وهنا بات الخلط واضحا بين مفهوم المواطنة وشروطها، ومفهوم الحفاظ على الهويّات الدينية أو القومية، كما هو الحال في فرنسا.
وفي الوقت الذي تشهد فيه فرنسا احتكاكات تتعلق بسوء الفهم أو الإساءة للدين الإسلامي أو المسلمين، فهناك مناطق يمارس فيها القتل علنا كما يحصل للمسلمين الروهينغا والإيغور في ميانمار والصين، كما يساء للمسلمين في دول مسلمة، ففي سوريا قام نظام الأسد بذبح عشرات الآلاف في مجزرة حماة، وكرر مذابحه بحق المدنيين السوريين عشرات المرات خلال العقد الماضي، وأحرق الموالون له القرآن وهدموا مئات المساجد.
يبدو إذن أن الحساسية مما جرى في فرنسا ترتبط بظروف سياسية واقتصادية، ويبدو أن مئات الملايين المضطهدين من قبل أنظمة بلادهم وجدوا خصماً مجّانياً هو فرنسا، في حين لم يقدر الرئيس إيمانويل ماكرون حساسية الموقف واستخدم الإعلام للتعبير عن موقف من الحادثة بتصريح يشير إلى أزمة يعيشها الإسلام، لكن سرعان ما صحّح تصريحاته مفسّرا جدلية الحريات العامة التي لا يمكن للحكم التدخّل فيها.
تستفيد بعض الأطراف من تأييدها لتقييد الحريات في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية باستغلال قضية الإسلام والرسومات "المسيئة"، وهو اصطفاف انتهازي هدفه انتزاع بعض المكاسب لصالح الجماعات الدينية، وليس اصطفافاً من أجل الحريات، وربما لو سمحت الظروف للكنيسة العودة للسيطرة على المجتمعات في الغرب لما وفّرت هذه الفرصة.
ليس معلوما بعد انحسار موجة الاحتجاج والمطالبة بمقاطعة البضائع الفرنسية كيف سيتابع المؤمنون نضالاتهم في غير مكان، فالمذابح بحق المسلمين مستمرة، والصراع المذهبي على أشدّه، كما تعاني المجتمعات في الدول الإسلامية عموما من تقييد شديد على الحريّات العامة، هناك أزمة فكر وإنتاج وتعليم وصحة، وهناك طوابير الخبز والوقود في عدة دول فيما يصغر الرغيف ويرتفع ثمنه في دول أخرى دون احتجاجات.
ربما يكون المخرج الوحيد هو أن نحمّل الاستعمار الفرنسي البائد نتيجة خيباتنا.. إذن دعونا نتحدث أيضا عن الاستعمار الروسي والإيراني والتركي والأمريكي الحاضر.
هل انتهت أزمة الأستاذ بغزوة "نيس".. هل نعود إلى الطوابير*
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية