أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

فرع ابن العميد... عبدالرزاق دياب*

ببساطة هي سوريا التي يحكمها البعث منذ أكثر من نصف قرن بسياسة الأقفاص والدم، والصورة التي أفزعت من شاهدها بالأمس هي صورة السوري في كل مراحل حياته، وهي طابوره الأبدي منذ خروجه من بيته إلى المدرسة والجامعة والجيش والوظيفة..إلى القبر.

فرن ابن العميد في مساكن برزة هو جزء من سلسلة الأفران الاحتياطية الضخمة التي صممت لتخدم أعداداً كبيرة من الناس في التجمعات الكبرى، والتي تخفف الضغط على الأفران الخاصة في الأحياء والحارات، وهي تتبع لعقلية النظام في تسيير أمور المواطنين على مبدأ (نحن نحكمكم ونطعمكم).

الأقفاص المثيرة للاشمئزاز هي وسيلة علاج الفوضى التي صنعها النظام، وطريقة إحداث التباعد الاجتماعي فالنظام يخشى عليهم من (كورونا) فيضعهم في أقفاص تصلح للكلاب وحدائق الحيوان، وهي على الأقل في الهواء الطلق وليست في الأقبية كما السجون التي خبروها طوال هذه العقود من القمع والتسلط.

مدير مخابز العاصمة أراد كما يقول المثل السوري (أن يكحلها فعماها)، وبرر هذه الأقفاص البشرية بالقول إنها (طريقة الأقفاص هي لتنظيم الدور، والفصل بين الرجال والنساء وجنود الجيش)، واتهم السوريين جميعاً بأن ليس لديهم ثقافة الدور، وكأن السوري يعيش في ملكوت أرضي، وليس في طابور متواصل لكل سلعة، والطوابير ما زالت قائمة على الكازيات والغاز ووسائل النقل...لذلك لا بد من تدريب هؤلاء بالقوة والقفص على الانتظام والتباعد.

في المدرسة يتعلم السوري كيف يصطف في الطابور في الصباح وعند الخروج إلى البيت في زمن طلائع البعث، وداخل المدرسة لن حوله أبعد من تلك القضبان المعدنية التي تحيط بصفه ومدرسته حتى النوافذ صممت لتمنعه من النظر أبعد من قضبانها، ومن هنا يبدأ الأحساس الأول بالسجن الذي سينتظره لآخر أنفاسه في بلاد البعث..ألم يرسم لنا عمر أميرلاي صورة ناجزة عن مستقبلنا في فيلمه (طوفان في بلاد البعث).

بعدها لن تختلف المشاهد ستحمل البندقية في الثانوية والجامعة، وترتدي ذاك الحذاء العسكري ولو يوماً واحداً في الأسبوع فيجب أن لا تنسى أنك مجرد جندي في دويلة البعث، أو على الأقل ستكون جاهزاً لأي معركة يريدها النظام ذات يوم.

في الصيف لن تذهب للبحر أو تقرر السفر فأول ما ستفعله هو الالتحاق بالصحراء حيث المعسكر الجامعي، وهنا حياة في خيمة بائسة وأوامر وشتائم ستعتاد عليها لأيام الإهانات القادمة، وهنا ستتعلم إطلاق النار بالمسدس والبندقية وترمي القنبلة حلف السواتر المعادية، وستأكل في (قصعات) البطولة، وتنام على أسرّة الرجال ليوم التحرير المنشود.

ثم تمضي بك الأيام..موظفاً بائساً براتب بالكاد يطعم أبناءك، وتكتشف أن كل تلك المقدمات البائسة لن تصنع سوى مواطن خاضع بائس، وأن الطابور مستمر إلى قبرك، وإن خرجت عن الطاعة ستوضع في القفص الذي لم يخرج بعد من ذاكرة الطفولة والشباب، وإن تطاولت اكثر ستموت بالرصاص والمدافع والطائرات..أما قفص الخبز فهو إعادة تأهيل من بقي في الدويلة قبل أن يفكر بالصراخ ..إنه فرع ابن العميد أيها السوري البائس.

*من كتاب "زمان الوصل"
(245)    هل أعجبتك المقالة (252)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي