فشل الرهان على جوع سوريي الداخل في ثورة أخرى قوامها لقمتهم المسروقة والممنوعة، وعلى الرغم من كل التضييق الذي مارسه النظام في كل حاجاتهم الأساسية ما زال جزء كبير منهم يرى أن المشكلة ليست سوى مؤامرة خارجية وحصار ظالم.
الوعود التي أطلقها النظام لمن وقفوا معه سواء بالصمت أو بالرصاص لم تخيب للآن ظنونهم بقيادته، ويراهنون على الوقت والحلفاء في الدعم والمدد، وأن بعض الصبر قد يعود بفوائد أكثر من صيحة جوع، وفي عظيم غضبهم يصرخون ضد الفاسدين واللصوص فيما ينخر البرد وتسود الظلمة حياتهم.
سقطت خطوط سيدهم الحمراء واحداً تلو آخر، أهمها الخبز الذي ما عاد خبزاً برائحة صباحات الشام بل مغمساً بذل الانتظار في طوابير باتت عناوين رئيسة في صحف وفضائيات العالم، وإن حصلوا عليه بعد جهد فهو بنكهة الخميرة الإيرانية العفنة، ومن أسوأ أنواع القمح التي تمنّ به روسيا كل فترة قبل سقوطهم موتى من الجوع لا خشية عليهم بل كرمى لعيون الحليف الذي سيقدم تنازلاً جديداً عن قطعة أرض أو كرامة موقف.
هذا الشتاء سيكون الأقسى على من لا يجدون ثمن وقود التدفئة من السوق السوداء فمؤسسات النظام لم توزع سوى كميات قليلة على المقربين جداً، ومن لديهم المال وهؤلاء لا يكترثون بالأسعار الباهظة فأغلبهم إما فاسد أو منتسب لعصابة أو ميليشيا، ولهم وسائلهم في تأمين ما يحتاجونه بل كل أصناف الرفاهية.
منذ أيام يستشيط البعض من دوام انقطاع الكهرباء، والعاصمة لم تسلم من انقطاعات طويلة بل إنها منذ يومين انقطعت لأكثر من عشرين ساعة، ومع ذلك لم يرتفع سقف التعليقات عن شتم بعض الموظفين والمتآمرين وصولاً إلى وزير الكهرباء الذي خرج بالأمس ليبشرهم أن هذه الحال ستستمر لثلاث سنوات قادمة هذا إن صح كلامه فالقادم يبدو أكثر عتمة.
بالنتيجة لم يفلح الجوع والذل في صناعة وعي التغيير، ويبدو الخوف سيد قلوب من بقي تحت سلطة الأسد، وقد يقول قائل إن هؤلاء شهود على مصائر من حاولوا الخروج، وشهود على المذابح والمجازر، وشهود على الخذلان..فلماذا إعادة الكرّة وتدمير ما بقي من الوطن؟. نعم لهؤلاء الحق في السؤال والخوف، ولكن أيضاً من حق الإنسان أن يعيش بكرامة وبعض الرمق لا أن يقتله الذل والجوع مرات قبل أن يموت تحت التعذيب أو خشيته لأن من يقومون على سلطة البلاد لا تعنيهم كرامة أحد أو مصير أحد.
أعوان النظام متورطون في القتل والسرقة، ومتمسكون بكل ما اقترفت أيديهم فقد أخذوا قرارهم منذ البداية بأن يكونوا سيفه وذراعه، وأن يموتوا معه ويعيشوا مثله على دم الآخرين وخوفهم.
بالمقابل، الصامتون والرماديون جربوا أن الواقف في منتصف المعركة لن ينجُ أبداً من نارها، وهؤلاء يدفعون اليوم أثماناً مضاعفة فلا النظام يثق ويهتم بهم، والمعارضون يرون فيهم أخوة الخذلان والعار.
لذلك في ظل هذه الانقسامات -التي لم يوحدها ويجمعها الجوع، ولم يحركها الذل والعتمة- والتشرذم، وفائض المهانة، والمستقبل المجهول الذي ينتظر الجميع عليهم أن يحسموا أمرهم بين الخراب النهائي وانتفاضة كرامة. ربما انتفاضة كرامة تعيد عقداً اجتماعياً بين كل هؤلاء المتنافرين، وتعيد بناء وطن لم تحطمه الحرب وحدها، بل المصالح والذل والخوف والثقة المفقودة..فالجوع وحده لا يصنع ثورة.
*عبد الرزاق دياب - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية