لا يبدو أن الكرسي بات يرمز فقط إلى كرسي الحكم في مراتبه السياسية العليا، ففي كل مكان كرسي تتنازع عليه المجموعات البشرية الاجتماعية كبرت أم صغرت، وحتى ضمن الاسرة الواحدة، حين يتجاوز الأب دوره وينتقل إلى مرحلة التسلط إنما في حقيقته هو يسعى للحفاظ على "كرسيه" داخل العائلة، النواة الأولى للمجتمع، ومثله المتنافسون على زعامة الأحياء والحارات، وهذا ما كرسته الدراما السورية عبر مطولة باب الحارة المملة، ومثلها في السينما المصرية وتناولها لفتوات الأحياء الشعبية وزعاماتها التي حملت أسماء مختلفة.. في الصراع بين القوى الفاعلة للوصول إلى الكرسي، بدءًا من كرسي الحارة، إلى كراسي البيت الأبيض والكرملن، تسحق شعوب وتفنى دول وتنهار اقتصادات وتتضاعف أرقام الأيتام والأرامل ومعدلات الفقر وما يترتب عليها من آفات وأوبئة وأمراض.
في الشأن السوري، ولكثرة الصراعات بين كافة المكونات وعلى كافة الصعد، يخيل إليّ أن فوق السوريين في الداخل وفي دول شتاتهم، ملايين الكراسي التي تشخص أبصارهم إليها، فتنزلق أقدامهم إلى حفر ومستنقعات، تبعدهم أكثر فأكثر عن منالهم، وتزيد من شدة بأس بعضهم على بعض.
ويبدو أن شدة البأس هذه لها علاقة بأول من ابتكر الكرسي، الفراعنة، إذ تشير المصادر إلى أن "الكرسي" من ابتكار الفراعنة في عصر الدولة القديمة أي حوالي 2500 ق.م، وكانت الكراسي الملكية تُصنع في ورش نوعية تتبع القصر الملكي، يقود العمل فيها موظف يحمل لقب المشرف العام على صناعة الكراسي ذات الأرجل، وآمل ألا تكون الكراسي التي يتطاحن السوريون عليها من دون أرجل.
الكراسي تختلف في رمزيتها فمنها ما هو سياسي ومنها ما هو ديني طبعا، بالإضافة لفروقات الاستخدام، فبعضه يستخدم ككرسي حمام، أو للمرحاض (بيديه) ومنه ما يستخدم في الأعراس والمآتم والوزارات والرئاسة وغيرها الكثير الكثير من الاستخدامات وصولاً لكرسي الجلوس العادي الذي يتحمل خفيف الظل وثقيله وطيّب الرائحة ونتنها.
والـ"كُرسيّ" وجمعه كراسٍ وكراسيُّ مقعدٌ من الخشب ونحوِه لجالس واحد، والكُرْسِيُّ مركزٌ علميٌّ في الجامعة يشغَله أُستاذٌ والجمع كَراسِيّ، والكرسيّ البابويّ الرسوليّ وهو مركز إقامة البابا، كرسي المُلْك: عَرْشه.
وفي القرآن الكريم آية الكرسيّ رقم 255 من سورة البقرة (وسع كرسيه السموات والأرض…) وفيها وسع كرسيه أي علمه ومنه جاءت تسمية الكراسة لتضمنها العلم.
أما الكرسي في الرؤية فهو بحسب "ابن سيرين" يدل على السلطان والرفعة والشرف، ولا أعرف إن كانت تأويلات "ابن سيرين" تصلح لزماننا، فما أبقت تقلبات العصر على الكراسي سوى أرباب العار والانحطاط.
كراسي بلا أرجل.. حسين الزعبي*
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية